الماكينة الألمانية مصابة بالعطب .. محركات الاقتصاد الـ 4 لا تعمل بالكفاءة المطلوبة

الماكينة الألمانية مصابة بالعطب .. محركات الاقتصاد الـ 4 لا تعمل بالكفاءة المطلوبة
الماكينة الألمانية مصابة بالعطب .. محركات الاقتصاد الـ 4 لا تعمل بالكفاءة المطلوبة

لم يكن من الممكن أن يمر خبر دخول الاقتصاد الألماني مرحلة الركود في وقت يواصل فيه التضخم قصف جميع الجبهات الاقتصادية الألمانية، مرور الكرام في وسائل الإعلام الدولية وتحديدا البريطانية التي تعاملت مع الخبر بكثير من "البهجة الصامتة" إذا جاز التعبير، ولسان حالها يقول "الجميع في الهم سواء".
جزء من البهجة البريطانية يعود إلى أنه منذ خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي والشركات البريطانية خاصة العملاقة منها، تفر من المملكة المتحدة في اتجاه ألمانيا، وتقوم بتأسيس مقرها الرئيس في القارة الأوروبية هناك.
وقدر عدد الشركات البريطانية، التي أسست فروعا لها في ألمانيا العام الماضي بنحو 170 شركة، حيث كان لتدفق الشركات البريطانية على ألمانيا فعل السحر، إذ قفزت الاستثمارات الأجنبية المباشرة من ستة مليارات جنيه استرليني 2021 إلى 22 مليار جنيه استرليني العام الماضي، لتحقق ألمانيا بذلك ارتفاعا قياسيا غير مسبوق في حجم الاستثمارات الأجنبية المتدفقة عليها.
انتقال الشركات البريطانية من المملكة المتحدة لممارسة نشاطها في ألمانيا، لم يكن العامل الوحيد الذي أزعج الجانب البريطاني، وإنما الأكثر مدعاة للقلق كان انتقال عديد من الخبرات النادرة والمميزة في مجالات الإدارة والمصارف والتكنولوجيا من المملكة المتحدة إلى ألمانيا.
ربما يكون للبريطانيين حق "البهجة الصامتة" والقول بأن الوضع الاقتصادي في ألمانيا لا يقل سوءا عن المملكة المتحدة إن لم يزد، فالاقتصاد البريطاني لم يدخل مرحلة الركود ولربما تفادى الوقوع فيها، حتى معدل التضخم البالغ 10.1 في المائة في مارس الماضي، ها هو يأخذ في التراجع ليصل الآن إلى 8.7 في المائة، فهل تشهد الفترة المقبلة هجرة معاكسة من ألمانيا إلى بريطانيا أو تعود الطيور المهاجرة إلى أعشاشها في العاصمة لندن أو في كبريات المدن البريطانية الأخرى.
يستبعد الخبير الاستثماري ك. استرمر حدوث هجرة معاكسة للشركات الألمانية في اتجاه المملكة المتحدة.
ويقول لـ"الاقتصادية"، "في الربع الأخير من العام الماضي تراجع الاقتصاد الألماني بنسبة 0.5 في المائة، وفي الربع الأول من هذا العام أي بين شهري يناير ومارس تراجع بنحو 0.3 في المائة، مع هذا تظل ألمانيا أكبر وأقوى اقتصاد في أوروبا. وتراجع الاقتصاد الألماني لن يمنع الشركات البريطانية من مواصلة الانتقال إلى هناك".
وجهة النظر تلك تدفع إلى التساؤل إذا كان الاقتصاد الألماني بتلك الجاذبية الاستثمارية، فما الذي يدفعه إلى الركود؟
يلقي أغلب الاقتصاديين بالمسؤولية على معدلات التضخم المرتفعة التي أدت إلى معاناة المستهلك ومعه الاقتصاد الألماني وسقوطه من أعلى. ففي شهر أبريل بلغ التضخم في ألمانيا 7.2 في المائة ليصل بذلك إلى أعلى معدل تضخم في منطقة اليورو، لكنه مع ذلك ظل أقل من نظيره في بريطانيا. وقد أثرت الأسعار المرتفعة للسلع والخدمات سلبا على الطلب الكلي ومن ثم على الشركات الألمانية.
لكن هذا لا ينفي قناعة بعض الخبراء أن القرارات السياسية التي اتخذتها ألمانيا بشأن العلاقة مع روسيا في أعقاب الحرب في أوكرانيا، لعبت دورا رئيسا في إضعاف جهاز المناعة لدى الاقتصادي الألماني.
من جهتها، تقول لـ"الاقتصادية" الدكتورة ميلا ناثن، أستاذة مبادئ العلوم السياسية في جامعة كامبريدج، "الانسياق الأوروبي عامة والألماني تحديدا وراء رؤية الإدارة الأمريكية في كيفية التعامل مع روسيا، أدى إلى الإضرار بالاقتصاد الألماني، فعندما توقفت إمدادات الغاز الروسي، التي تعتمد عليها الصناعة الألمانية أكثر من أي صناعة أوروبية أخرى، فإن ارتفاع أسعار الطاقة أدى لزيادة كبيرة في معدلات التضخم، ما مثل عبئا على الاقتصاد الألماني، وترافق ذلك مع انخفاض في الإنفاق الحكومي بنحو 5 في المائة".
وتضيف "الوضع الاقتصادي في ألمانيا كان يمكن أن يكون أسوأ من ذلك، إلا أن الشتاء المعتدل حد نسبيا من استهلاك الطاقة، وتراجع الصين عن سياسة صفر كوفيد فتح الأسواق الصينية أمام السلع الألمانية المعمرة، ما ساعد برلين نسبيا على فرملة الوضع الاقتصادي المتراجع".
يصعب إنكار أن ارتفاع أسعار الطاقة انعكس سلبا على الاقتصاد الألماني من خلال زيادة العجز المالي في الميزانية العامة. فعجز الميزانية العامة جزءا أصيلا في المشهد الاقتصادي الألماني الراهن، إذ تواصل الحكومة جهودها لتقليص العجز كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، ويتوقع أن يتراجع العجز من 2.6 في المائة العام الماضي إلى 2.3 في المائة هذا العام وإلى 1.2 في المائة العام المقبل، لكن تكلفة تدابير دعم الطاقة ستصل إلى 2 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، ما يعني أنها ستسهم بنصيب لا بأس به، في مواصلة العجز في الميزانية الألمانية.
لا يزال المسؤولون الاقتصاديون في ألمانيا يعربون عن قدرتهم على خفض معدل التضخم ليصل في المتوسط هذا العام إلى 6.6 في المائة، على أن يتراجع إلى 3 في المائة فقط العام المقبل، إلا أن النبرة التفاؤلية تلك لا تأخذ في الحسبان حالة عدم الاستقرار في النظام المصرفي في منطقة اليورو، ما قد يعرض الاقتصاد الألماني لمخاطر هبوط جديدة ويجعل تقييم المخاطر أكثر ضبابية.
مع هذا يعتقد البعض أن الاقتصاد الألماني ورغم الصعوبات، التي يواجهها أثبت مرونة وقدرة على التكيف مع تكاليف الإنتاج المرتفعة، بما يساعد على تعافي الاستثمار، يضاف إلى ذلك أن المالية العامة تتحسن، حيث إن إجراءات الدعم أقل تكلفة مما كان متوقعا، وسيؤدي ذلك إلى اتجاه الدين العام إلى الهبوط.
كما يشير الخبراء إلى أهمية سوق العمل الألمانية وتمتعها بأداء قوي، ما يؤدي إلى رفع الأجور الحقيقية ويدعم الاستهلاك.
بدوره، يقول لـ"الاقتصادية" أريك وليام، الباحث في منظمة العمل الدولية، "كان التوظيف في أعلى مستوياته على الإطلاق أواخر العام الماضي، ووصل معدل البطالة إلى أدنى مستوى تاريخي له عند 2.8 في المائة في مارس الماضي. وألمانيا تعاني نقصا في الأيدي العاملة. ويتوقع أن يزداد التوظيف أكثر مستقبلا، فألمانيا تحتاج إلى جذب نحو 400 ألف عامل سنويا على مدى الأعوام المقبلة، وعملية التوظيف في الشركات الألمانية يقيدها عرض العمالة وليس الطلب، وأدى ذلك إلى زيادة الأجور في المتوسط العام الماضي بنحو 4.7 في المائة".
ويضيف "لذلك يمكن أن نقول أن سوق العمل في ألمانيا ضيقة، ويتوقع استئناف نمو الأجور الحقيقية، ما يرفع القدرة الشرائية للمواطنين، وسيستمر معدل ادخار الأسر في الانخفاض نحو مستويات ما قبل جائحة كورونا".
تبدو وجهة النظر تلك داعمة لفكرة أن الركود الاقتصادي الذي تعانيه ألمانيا حاليا ركود مؤقت لا يؤثر في البنية الاقتصادية القوية والجذابة لرؤوس الأموال والشركات الدولية، فسوق العمل وما تتمتع به من مهارات مرتفعة تلعب دورا إيجابيا في جاذبية الاقتصاد الألماني.
مع هذا يرى البروفيسور توم تشارلز، أستاذ الاقتصاد الدولي السابق في جامعة أكسفورد أن الوضع الاقتصادي الألماني بات شديد التعقيد، وما الركود الاقتصادي الذي تعانيه الآن إلا مؤشر أولي على أن الماكينة الألمانية أصابها عطب ما، وأنها في حاجة إلى صيانة واستبدال بعض قطع الغيار الأساسية.
ولكن قبل أن يتطرق إلى شرح وجهة نظره بشأن مشكلات الاقتصاد الألماني، فإنه يرى أن تدفق الشركات البريطانية على ألمانيا لا يعد من وجهة نظره دليلا على قوة الاقتصاد الألماني وإنما دليل ضعف على اقتصاد المملكة المتحدة.
ويؤكد لـ"الاقتصادية" أن الدولة، التي كانت توصف دائما باسم المحرك الاقتصادي لأوروبا مصابة الآن بالركود الاقتصادي، وهذا تحول اقتصادي خطير لدولة ازدهرت اقتصاديا على مدار العقدين الماضيين، فالماكينة الألمانية اعتمدت على أربعة محركات وهي التجارة العالمية الحرة والمفتوحة، والطلب المتزايد من الصين، والقوى العاملة المحلية الفعالة، والطاقة الروسية الرخيصة، تلك المحركات الأربعة لم تتوقف بعضها عن العمل، بينما أصاب العطب بعضها، بحيث لم تعد تعمل بكفاءة كما كان الأمر في الماضي.
وحول تلك المحركات الأربعة، يقول إن "محرك الطاقة الروسية الرخيصة خرج من الخدمة، ولم يعد يعمل، وألمانيا سعت لاستبداله بمحرك آخر عبر استيراد الطاقة من بلدان أخرى خارج القارة الأوروبية، لكن المحرك الجديد باهظ الثمن".
ويضيف "المحركات الثلاثة الأخرى أصيبت باختلالات مختلفة، فقوة العمل الألمانية ونتيجة لتحول سوق العمل إلى التوظيف الكامل تقريبا، ارتفعت أجورها وزادت بذلك تكلفة الإنتاج وانخفضت بالتالي قدرة ألمانيا على المنافسة، خاصة في مواجهة الدول الآسيوية، من ثم المحرك الثاني يعمل، ولكن يحتاج إلى إصلاح سريع".
ويتابع "بالنسبة للطلب الصيني، فالصين أكبر شريك تجاري لألمانيا، لكنها لم تعد في حاجة ماسة للمنتجات الألمانية، كما كان الأمر في الماضي، إذ اعتمدت ألمانيا على تصدير السيارات والمعدات الهندسية للصين، وتلك الصناعات كانت قادرة على جذب مجمل الصناعات الألمانية للأمام. اليوم الصين من كبار منتجي السيارات في العالم، وكذلك عديد من المعدات الهندسية. المحرك الوحيد الذي لا يزال يعمل لكنه في حاجة إلى كثير من الزيوت لتسهيل حركته هو التجارة الدولية الحرة، لكن المشكلة أن الحرب الروسية - الأوكرانية وقبلها جائحة كورونا أدت إلى ارتباكات كبيرة في سلاسل التوريد لم يتم التغلب عليها بالكامل حتى الآن".
وفي الواقع، فإن المعجزة الاقتصادية الألمانية وصعودها من الدمار، الذي لحق بها في الحرب العالمية الثانية بحيث باتت أحد أغنى دول العالم كان يعتمد إلى حد كبير على التجارة الحرة والقدرة التصديرية المتنامية لألمانيا، فعلى سبيل المثال تعتمد ربع الوظائف الألمانية تقريبا على الصادرات، مقارنة بنحو 6 في المائة في سوق الولايات المتحدة الأمريكية، كما أن عدد سكان ألمانيا ورغم ارتفاع مستوى المعيشة أصغر من أن يستهلك الإنتاج الفائض لشركاتها الصناعية.
وفي الواقع، فإن الصادرات الألمانية تواجه منذ 2017 صعوبات أبرزها انكماش الناتج الصناعي 15 في المائة، وقد أرجع بعض الخبراء ذلك لفقدان القدرة التنافسية، فوفقا لبعض المؤشرات تراجعت الصناعة الألمانية عن إيطاليا في الأعوام الأخيرة، سواء بسبب ارتفاع تكاليف العمالة، أو الضرائب المرتفعة على الشركات، كما أن تركيز الحكومة على خفض الديون دفعها إلى الحد من الاستثمار العام.
لكن المشكلة لم تقف عند هذا الحد فالشكوك الدولية تتزايد في بعض البلدان على الأقل بشأن فوائد التكامل الاقتصادي العالمي، وكثير من الاقتصاديين المحافظين في الولايات المتحدة ينتقدون بشدة الفوائض التجارية الكبيرة لألمانيا. مع هذا يرى البروفيسور توم تشارلز أن "الماكينة الألمانية في حاجة ماسة إلى مهندس أو مهندسين جدد يكون لديهم أفكار ابتكارية لتطويرها، ولا يجب أن يقف الأمر عند حدود تغير بعض القطع الصغيرة، فهناك حاجة إلى تغيير المحركات، دون ذلك قد يفاجئ الجميع بأن الماكينة لم تعد تعمل بالكفاءة المطلوبة قبل أن تتوقف عن العمل تماما يوما ما".
لكن الألمان أثبتوا تاريخيا قدرتهم على التصدي للصدمات الاقتصادية الكبيرة، إذ تغلبوا في نهاية المطاف على التداعيات الاقتصادية للتوحيد المرتبك لألمانيا الشرقية والغربية في تسعينيات القرن الماضي، وفي أوائل القرن الحالي تبنت الحكومة الألمانية سلسلة من الإصلاحات لسوق العمل، أسفرت عن خفض تكاليف العمالة واستعادة الاقتصاد الألماني لقدرته التنافسية، بحيث باتت ألمانيا أكبر مصدر للبضائع في العالم متقدمة على الولايات المتحدة والصين، حتى بعد الأزمة المالية العالمية 2008، انتعش الاقتصاد الألماني بشكل كبير.
لكن التجارب التاريخية للنهوض الاقتصادي الألماني الناجح لا تعني أن الألمان بمنأى عن الوقوع في فخ المعضلات الاقتصادية الحادة، وربما يكون الركود الاقتصادي مؤشرا أوليا على أن ألمانيا في حاجة إلى وقفة جادة لإعادة النظر في جوانب الخلل والقصور في دربها الاقتصادي، إلا أن تلك الوقفه واتخاذ قرار بشأن عملية الإصلاح يخرج من نطاق الاقتصاد وعالم الأعمال إلى عالم السياسة، وتلك قضية أخرى.

الأكثر قراءة