تجارة خليجية بمسارات تحالفية
يحتل الاقتصاد الخليجي المرتبة الـ12 عالميا وارتفع الناتج المحلي الإجمالي لدول المنطقة 18.4 في المائة خلال العام الماضي، ليبلغ نحو 1.68 تريليون دولار، مقابل 1.42 تريليون دولار في 2020. وتدل بيانات صندوق النقد الدولي وهيئات الإحصاء الخليجية أن الاقتصاد الخليجي يشكل 1.75 في المائة من الناتج العالمي في 2021 البالغ 96.29 تريليون دولار، وتقدم في الترتيب مركزا بعد أن كان الـ13 في 2020 بحصة 1.67 في المائة من العالم البالغ ناتجه في العام ذاته 85.24 تريليون دولار. وشهد الناتج المحلي ارتفاعا لجميع دول المنطقة خلال 2021.
ويلاحظ أن المنطقة مستعدة لأن تبقى نقطة مضيئة بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي رغم أن الانتعاش القوي بعد الوباء قد تراجع نسبيا بسبب أزمة تكاليف المعيشة والحرب في أوروبا الشرقية. وبلغ النمو المتوقع للناتج المحلي الإجمالي لمنطقة الخليج ككل في 2022، 7 في المائة، بينما يبدو أنه يمكن تحقيق نحو 3.5 في المائة أكثر في 2023.
ومن هنا تعد هذه الأرقام قوية بحسب المعايير العالمية الحالية وكذلك المواصفات التاريخية. ويعد هذا الأداء القوي مدينا إلى حد كبير بديناميكيات سوق النفط الأخيرة ونشاطات اقتصادية أخرى متنوعة وغير نفطية. كما أن قوة الاقتصاد الخليجي تعكس تعامل سلطاتها الإقليمية الفاعل مع جائحة كورونا، الذي أظهر إدارة ناجحة للأزمات من حيث تتبع العدوى وإدارة المخاطر وطرح اللقاحات. وسمحت هذه المرونة بقفزة مثيرة للإعجاب في النشاط الاقتصادي.
ومن خلال الاستشهاد بهذه الأرقام والإنجازات على صعيد المؤشرات الإيجابية للاقتصاد الخليجي، فإن الخطوات الراهنة والنشطة على صعيد استكمال مسارات السوق الخليجية المشتركة، تأتي نتيجة لاستحقاقات عديدة، وتطورات مختلفة سواء على الصعيد الإقليمي الخليجي أو على الساحة الدولية عموما.
الاتفاقيات المؤسسة للسوق الخليجية المشتركة، باتت تتطلب مزيدا من الدعم، وبالطبع تحتاج إلى مزيد من التوسيع، لتكون موائمة للمرحلة المقبلة، خصوصا أن الفترة السابقة أظهرت كثيرا من القفزات النوعية في هذا المجال. وتم ذلك استنادا إلى الواقعية التي تحلت بها دول مجلس التعاون الخليجي في التعاطي مع المخططات الاستراتيجية. فلم تندفع وفق مسارات حماسية غير مدروسة، بل تعاطت مع الأمر من زاوياه الحقيقية المباشرة. ولا شك أن الإمكانات التي تتمتع بها دول مجلس التعاون، كانت المحور الرئيس في القفزات النوعية التي تمت، وستسهم بالتأكيد في القفزات المقبلة التي باتت اليوم مطلوبة أكثر من أي وقت مضى.
ومن أهم المسائل المرتبطة بتطوير السوق الخليجية المشتركة، هي تلك المتعلقة بشكل التعاطي والتعامل مع الدول والتحالفات الاقتصادية العالمية، فضلا عن التكتلات الإقليمية هنا وهناك، التي أظهرت أهميتها بالنسبة إلى الدول المنخرطة فيها. وهذه النقطة تمثل أساسا لتمتين العلاقات الدولية لمجلس التعاون الخليجي عموما. فضلا عن أن العلاقات التي تجمع دول المجلس ببقية الدول غير المنضوية تحت لواء تجمع أو تكتل أو تحالف، ستكون أكثر عمقا وعوائد على الدول الخليجية والعربية عموما.
ومن هنا، فإن التطوير اللازم للسوق الخليجية المشتركة، لا يدعم العلاقات البينية في هذه السوق فحسب، بل يؤسس أرضية أكثر صلابة في العلاقات الدولية عموما. والأمثلة كثيرة على الساحة الدولية، حيث حققت التكتلات عوائد ككيانات أكثر مما حققته بمفردها. فبريطانيا مثلا، لم تستطع بناء علاقات تجارية طبيعية حتى اليوم منذ خروجها من الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك عدم وجود اتفاق تجاري بينها وبين الولايات المتحدة بسبب هذا الخروج.
لكن كل هذا يبقى أقل أهمية من ضرورة التطوير اللازم في السوق الخليجية المشتركة، بما في ذلك تنفيذ مبادرات تدعم أواصر العلاقات بين الدول الأعضاء في هذا التكتل الذي يعد الأهم على مستوى الشرق الأوسط، والمؤثر بصورة كبيرة في الساحة الدولية. بالطبع هناك خطوات مهمة في هذا المجال، بما فيها المقترح السعودي الهادف إلى إنشاء وحدة للمحتوى المحلي الخليجي. وهذا المسار يعد أكثر محورية، لأنه يدعم أي تحالف اقتصادي. فعلى سبيل المثال، يطبق الاتحاد الأوروبي اليوم ذلك منذ عقود، ويشكل توحيد المحتوى أساسا لحرية الحركة التجارية. ومن هنا، يمكن النظر إلى المقترح السعودي على أنه الخطوة اللازمة الآن أكثر من أي وقت مضى. والمحتوى الموحد يعني ببساطة، توقيع اتفاقية بين دول مجلس التعاون، لمواءمة المحتوى الخليجي، على أن يتم تصنيف المنتجات المحلية، كمنتجات محلية في جميع دول مجلس التعاون.
وهذا المنهج يشكل أهمية قصوى ليس فقط للعلاقات بين الدول الأعضاء، بل للنشاطين التجاري والإنتاجي الخليجي عموما. فالتعريف الموحد للمنتج يمثل حاجة ملحة إلى الحراك التجاري عموما، سواء داخل دول المجلس أو خارجها. كل ذلك يدعم مزيدا من القواعد التي بنيت عليها السوق الخليجية المشتركة. فالاستراتيجيات لا تتوقف عند حدود معينة في مجالات مفتوحة ولها روابطها الإقليمية والعالمية. بما في ذلك ضرورة وجود استراتيجية واضحة ومتينة لضمان انسيابية سلاسل التوريد خلال الفترات الصعبة أو المضطربة، كما حدث في العامين الماضيين.
السوق الخليجية المشتركة، مهيأة بلا شك إلى قفزات نوعية في المستقبل، آخذة في الحسبان المتغيرات والتطورات الإقليمية والدولية.