الحكومات وأخطاء البنوك المتراكمة
الثقة هي الترياق السحري والمنطقي الذي يجعل الناس يضعون أموالهم كودائع في البنوك، سواء في حسابات جارية أو ودائع ادخارية أو أي شكل آخر، وبينما يدرك معظم الناس أن هذه الودائع، تستخدم كقروض لأشخاص آخرين لا يعرفهم أصحاب الودائع، وليس بينهم وبين المودعين عقد أو علاقة من أي جانب.
إن البنوك تعالج المسألة من خلال علاقات مختلفة بين الطرفين، وعلى أساس من الثقة بأن البنك يحسن التصرف في كل الأوقات، لكن مع ذلك، فإن البنوك -عالميا- تفشل في اختبار الثقة مرارا وتكرارا، ما يتسبب في سباق بين المودعين لسحب أموالهم قبل أن يصبح ذلك غير ممكن بفعل القانون، أو لأنها لم يعد لديها أموال كافية على الحقيقة، نظرا إلى أنها قد دفعت تلك الودائع على شكل قروض أو في استثمارات تعرضت لخسائر كبيرة، وهذا ما حدث فعليا في 2007 عندما تم سحب الودائع من بنك نورثرن روك في المملكة المتحدة، وتكرر الأمر مع بنك سيليكون فالي وبنك كريدي سويس. الثقة التي تحتاج إليها البنوك اليوم لضمان تدفقات منتظمة من الودائع تتطلب حماية هذه الودائع.
والحماية الحقيقية تكمن في خفض مستويات الإقراض ومراقبة صارمة من المودعين، لكن هذا إذا حدث سيكون له أثر سلبي في الاقتصاد، ذلك أن معظم الأنشطة الاقتصادية قائمة على ما تقدمه البنوك من قروض، ومن ذلك قطاع الرهن العقاري، ولتحقيق توازن معقول فقد استخدمت الحكومات أسلوب تأمين الودائع من أجل منح المودعين ثقة وحماية أموالهم.
تأمين الودائع هو ضمان الحكومة بأن أموال صاحب الحساب في البنك مؤمن عليها حتى مبلغ معين، (حاليا 250 ألف دولار لكل حساب في البنوك الأمريكية) ويتم توفير تأمين الودائع من قبل المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع FDI، وهي وكالة حكومية تجمع الرسوم -أقساط التأمين- من البنوك، يشرف على FDIC مجلس من خمسة أعضاء، ثلاثة يرشحهم الرئيس ويعينهم مجلس الشيوخ. ونظام تأمين الودائع في أمريكا قد تم إنشاؤه كاستجابة لما حدث في الكساد العظيم، وكان الغرض منه حينها منع الأفراد من الاندفاع غير المبرر على البنوك، الذي كان يعد أحد الأسباب التي أسهمت في حدوث الكساد، كما كان يهدف إلى منع عمليات التلاعب العدوانية التي يتم من خلالها إشاعة إفلاس النظام المصرفي أو أن البلاد تعاني صعوبات مالية.
ويعتمد تأمين الودائع على فرضية أن المودعين لن يسحبوا أموالهم حتى لو علموا أن البنك معسر، لأنهم واثقون بأن ودائعهم مضمونة من قبل الحكومة التي ستعوضهم في حال فشل البنك، وهذا يضمن وقف عمليات التهافت على البنوك التي تم الإبلاغ عنها على أنها معسرة أو لديها مشكلات مالية، ولن تحتاج البنوك المفلسة إلى بيع أصولها بسرعة للحصول على المال. وفي حال فشل البنك فعليا في الوفاء بالتزاماته تجاه المودعين والدائنين، يتدخل FDIC لحماية الودائع المصرفية من خلال إكمال عملية الاستحواذ على البنك الفاشل من قبل مؤسسة مالية أخرى، ونتيجة لذلك لا تضيع أموال المودعين، بل يتم تحويل حساباتهم على الفور إلى البنك الجديد، وهذا ما حدث في قضية بنك سيليكون فالي، حيث تم بيع عملياته في المملكة المتحدة إلى بنك إتش إس بي سي مقابل جنيه استرليني واحد.
ويمارس صندوق النقد الدولي ضغوطا كبيرة على جميع دول العالم من أجل تبني خطة لتأمين الودائع، وتبلغ خطة التأمين على الودائع في المملكة المتحدة، 85 ألف جنيه استرليني من أموال العميل، وفي السعودية تم إدخال نظام تأمين الودائع DIS في مطلع كانون الثاني (يناير) 2016 بما يؤكد التزام المملكة بتنفيذ المعايير المتفق عليها دوليا. لكن رغم نجاح هذا الإجراء في مناسبات مختلفة، إلا أن الأسئلة لم تزل قائمة بشأن صلابة قاعدة هذا الأسلوب، وهناك مشكلتان رئيستان في تطبيق هذا النموذج، الأولى تتعلق بالحافز لدى المودعين في مراقبة سلوك البنك، ففي نظام مصرفي دون تأمين على الودائع، سيكون لدى المودعين حافز قوي لمراقبة سلوك البنك للتأكد من أنه لا يتم التصرف في أموالهم بطريقة غير مسؤولة، ما يجعل البنوك أكثر حصافة في دراسة مستوى المخاطرة الذي يقبله المودعون، بينما مع التأمين يصبح الناس أقل رغبة في المراقبة، وتصبح الصحافة الاقتصادية أقل تدقيقا في مراقبة مستويات الودائع والقروض والنسب ذات العلاقة، ما يجعل البنوك أقل شفافية ولديها هامش حرية واسع وغير مراقب بشأن إقراض عالي المخاطر.
فالبنوك دائما عرضة للمخاطر الأخلاقية، لأنها تجني الأموال من ودائع الآخرين، ومع تأمين الودائع يتم تشجيع البنوك على تحمل مخاطر أكبر والاندفاع في صفقات مشبوهة وغير مدروسة بشكل كاف، بل يجعلها تسعى إلى أن تصبح أكبر حجما حتى يتم تصنيفها بأنها من النوع الذي ليس مسموحا له أن يفشل، ما يسهم في تراخيها لمعالجة الأخطاء مبكرا، بل السعي نحو تضخيم الودائع والانكشاف على الاقتصاد ككل، وعندما تفشل هذه البنوك على الحقيقة تتحمل الحكومات العبء الأكبر في معالجة الأخطاء المتراكمة.