تقارير و تحليلات

اقتصاد الفرص الضائعة .. لا ضوء في نهاية النفق الأرجنتيني رغم أجراس الإنذار

اقتصاد الفرص الضائعة .. لا ضوء في نهاية النفق الأرجنتيني رغم أجراس الإنذار

إذا أردت أن تذكر أسماء أعظم عشرة لاعبين في تاريخ كرة القدم، فستجد في أقل تقدير وبلا منازع اثنين منهم من الأرجنتين، الأسطورة ليونيل ميسي وقبله الساحر ديجيو مارادونا، وإذا أردت توسيع الدائرة لتذكر أفضل اللاعبين في تاريخ كرة القدم، فستذكر العشرات من لاعبي الأرجنتين، دانييل باساريلا المدافع الأشهر في تاريخ الأرجنتين، خافيير زانيتي قائد إنتر ميلان الإيطالي، جابريل باتيستوتا أفضل مهاجم رأس حربة في تاريخ الأرجنتين، وأخيرا وليس آخرا أنخل فابيان دي ماريا الذي خاض أكثر من 100 مباراة مع منتخب بلاده، هذا غيض من فيض من اللاعبين العظام، الذين أنجبتهم الكرة الأرجنتينية، وإذا واصلنا ذكر الأسماء فيمكن أن نتجاوز إعداد تقرير صحافي إلى تأليف أكثر من كتاب عن عظماء لاعبي كرة القدم الأرجنتينية.
عن انتصار الأرجنتين في نهائي مونديال كأس العالم 2022 حدث ولا حرج، عشرات المقالات والتقارير كتبت حول تكتيكات المنتخب الأرجنتيني وأدائه الساحر، وتتويجه بكأس العالم 2022 الذي جاء بعد أعوام من فوز 1986 على يد مارادونا، إذ عمت الاحتفالات الصاخبة وأجواء من الفرحة البلاد، وطرحت معها عديدا من الأسئلة عن تأثير هذا الفوز في الأوضاع السياسية في الأرجنتين ومستقبلها.
لكن للأسف، يقف الأداء الاقتصادي للأرجنتين في تناقض صارخ مع تميزها المذهل في كرة القدم، بل إن كثيرا من الخبراء الاقتصاديين يعدون الأرجنتين هي اقتصاد الفرص الضائعة، فمنذ عقود تخرج البلاد من أزمة لتتعثر في أخرى، ومع كل أزمة تتبدد أصول البلاد التي كانت كفيلة بأن تجعلها في مصاف الدول المتقدمة.
لم تنتج الأرجنتين موهوبين في كرة القدم فقط، فقد حصل ثلاثة من أبنائها على جائزة نوبل، اثنان في الطب برناردو هوساي عام 1947، وسيزار ميلشتاين عام 1984، بينما حصل لوريس لولوار على نوبل في الكيمياء عام 1970، ونال أرجنتينيان جائزة نوبل للسلام، أما بالنسبة للأدب، فإن فن الرواية والمسرح يعد أحد الأعمدة الأساسية للأدب في أمريكا اللاتينية، باختصار الأرجنتين تمتلك رأسمالا بشريا يحق لها أن تفخر به، يضاف إلى ذلك قدر هائل من الموارد الطبيعية التي تمكنها من أن تكون في مصاف الدول المتقدمة.
مع هذا ومنذ استقلالها عن إسبانيا عام 1816، أعلنت الأرجنتين إفلاسها تسع مرات، والفشل الاقتصادي في تلبية تطلعات الشعب ورفع مستوى معيشته يجعل السؤال الأكثر إلحاحا بين الأرجنتيين، لماذا لم تنهض بلادنا اقتصاديا؟ ولماذا تمسك الأزمة الاقتصادية بتلابيب الأرجنتين دائما، ولماذا تكون الأرجنتين الدولة الأكثر استدانة من صندوق النقد الدولي؟ ولماذا البيزو الأرجنتيني في تدهور مستمر في مواجهة العملات الدولية الأخرى خاصة الدولار؟ ولماذا يعيش أربعة من كل عشرة أرجنتينيين تحت خط الفقر؟
تعبر الخبيرة الاقتصادية إيما أديسون عن مظاهر الأزمة الاقتصادية في الأرجنتين بالقول إنها نموذج لاقتصاد متوسط الكثافة السكانية، حيث يبلغ عدد السكان نحو 46 مليون نسمة، لكنه يعاني حلقة مفرغة من التضخم.
وقالت لـ"الاقتصادية" إن "زيادة معدلات التضخم تدفع الحكومة إلى محاولة السيطرة على الوضع من خلال زيادة الأجور والإعانات عبر زيادة طبع العملة المحلية، ما يغذي دوامة التضخم، ومن ثم لا تستطيع البلاد الخروج من الدائرة المغلقة التي وجدت نفسها فيها منذ عقود، فعلى سبيل المثال نفقات معاشات التقاعد الحكومية تراوح بين 34 و40 في المائة من إجمالي الإنفاق الحكومي.
وبالفعل، فإن كريستالينا جورجييفا، مديرة صندوق النقد الدولي أعلنت العام الماضي، أن الأرجنتين تواجه تحديات اقتصادية واجتماعية استثنائية، إذ انخفض دخل الفرد، وارتفعت مستويات الفقر، واستمر التضخم في تحقيق قفزات غير مسبوقة، وعبء الديون يزداد ثقلا، والقدرة على الاستدانة من الخارج تتراجع.
من جانبه، يرى الدكتور آر. لويس الاستشاري السابق في البنك الدولي، أن جوهر مشكلة الاقتصاد الأرجنتيني عند مقارنته بأداء الفريق القومي لكرة القدم، أن ميسي ورفاقه أكثر جدية في الأداء من السياسيين والاقتصاديين الذين لا يعالجون جوهر المشكلة الاقتصادية وهما التضخم والديون.
وذكر لـ"الاقتصادية" أن "الانخفاض المتسارع لقيمة العملة الأرجنتينية في كل من الأسواق الرسمية والموازية سيؤدي إلى ارتفاع التضخم في 2023، وسيصل التضخم إلى ذروته في منتصف العام، نتيجة ضعف طلب المستهلكين والتأثير المتأخر لارتفاع أسعار الفائدة أخيرا".
وبالفعل، فإن مشكلة التضخم بما يعنيه ذلك من تراجع مستوى المعيشة كان جوهر الأزمة الاقتصادية للأرجنتين دائما، وكان أكثر وضوحا في العام الماضي، فمؤسسات التصنيف الائتماني قدرت معدل التضخم في سبتمبر من 2022 بـ83.5 في المائة، وفي أكتوبر الماضي قفز إلى 88 في المائة، وهو الأسوأ منذ جيل تقريبا.
ووفقا للتقارير المحلية، فإن الفقر يؤثر في 43 في المائة من السكان، ارتفاعا من 28 في المائة قبل خمسة أعوام، وهذا الوضع الصعب الذي يضغط بصورة لا تطاق على الطبقة المتوسطة والطبقات الفقيرة، أجبر البنك المركزي على تشديد السياسات النقدية، ورفع معدلات الفائدة من 38 في المائة 2021 إلى 75 في المائة العام الماضي، ما يهدد النمو.
منذ خمسينيات القرن الماضي، قام صندوق النقد الدولي بأكثر من 20 عملية إنقاذ للاقتصاد الأرجنتيني، والآن تدق أجراس الإنذار الاقتصادي مجددا وبصوت عال في الأرجنتين، ففي ظل مخاوف دولية من احتمال أن يكون الاقتصاد العالمي على أعتاب الركود هذا العام. ومع تصاعد التضخم بما يثيره من قلق بشأن عدم قدرة كثير من دول العالم الغارقة في الديون ومن بينها الأرجنتين في سداد ما عليها من ديون، وارتفاع فاتورة استيراد الطاقة إلى الحد الذي يمنع من تكوين احتياطيات حيوية من الدولار، وتراجع قيمة السندات السيادية رغم إعادة هيكلتها 2020 في صفقة ضخمة بقيمة 110 مليارات دولار.
وتنامي مخاوف الأسواق مجددا بأنه إذا لم تتمكن الأرجنتين من الوصول إلى أسواق رأس المال، وهو التعبير الاقتصادي "المهذب" عن الاستدانة من جديد، فإنه لن يكون أمامها إلا إعادة هيكلة ديونها مجددا، وكي يحدث هذا لا بد للحكومة الأرجنتينية أن تثبت لدائنيها الدوليين بأنها مستعدة حقا لسداد ديونها، كل هذا يدفع للتساؤل هل يكون عام 2023 عام الانفجار الأرجنتيني؟
من جانبه، يرى الخبير المصرفي الدولي أدم جورج، أن الشغل الشاغل والخطر الذي يهدد الأرجنتين في 2023 يتعلق بديونها خاصة الديون المحلية المقيمة بالعملة بالبيزو، ورغم أن الوضع الاقتصادي سيئ، فإن الأرجنتين يمكنها من وجهة نظره الهرب من انفجار الوضع إذا أحسنت التصرف.
وقال لـ"الاقتصادية" إن "الوضع يمكن أن ينفجر إذا بلغ التضخم 150 في المائة، هذا الخطر يبتعد الآن لكنه لا يزال غير مستبعد، المشكلة الأكثر ثقلا هو الحجم الكبير لديون البنك المركزي، خاصة الديون بالعملة المحلية، فتلك الديون تؤثر في سعر الصرف، وإذا ارتفع معدل التضخم إلى مستويات يصعب تحملها، فلن يكون أمام البنك المركزي غير تجميد أو مصادرة الودائع والمدخرات بالعملة المحلية، للسيطرة على التضخم".
وبلغت ديون الأرجنتين الدولية والمقيمة بالدولار في سبتمبر الماضي 382.3 مليار دولار، وكي تنجو من إعلان إفلاسها ومواصلة الاقتراض لتستطيع البقاء على قيد الحياة، فلن يكون أمامها غير إعادة هيكلة ديونها، إلا أن هذا لن يكون أكثر من مسكنات تؤجل لحظة الإعلان العاشر للإفلاس آجلا أم عاجلا.
مع هذا يرى الخبراء أن تفشي البؤس الاقتصادي في الأرجنتين يصعب تحميله فقط إلى الإخفاقات الاقتصادية، فالبلاد تفتقد إلى إجماع سياسي واجتماعي حقيقي وقوي قادر على تنفيذ برنامج إصلاحي، فالتدابير الاقتصادية التي يتم تبنيها ذات طبيعة شعبوية، والتدخلات الحكومية تسهم في مزيد من التشوه الاقتصادي، وحالة من الضعف المؤسسي والسياسي تستشري في البلاد، ومناخ الأعمال والاستثمار مرتبك وغير جدي في كثير من الأحيان.
وخلال العام الماضي، رفع المركزي الأرجنتيني أسعار الفائدة تسع مرات، وفي العام الجاري يتوقع ألا يتجاوز نمو الناتج المحلي الإجمالي نصفا في المائة.
ومنذ نصف قرن تقريبا حتى اليوم يواصل البنك المركزي الأرجنتيني طبع مزيد ومزيد من العملة المحلية لتغطية العجز المالي الذي يرفض التراجع، بينما يواصل الاستدانة من صندوق النقد الدولي، وربما بات للأرجنتينيين خبرة في كيفية التعامل مع عدم اليقين المالي، حيث أضحى الحديث عن التضخم وارتفاع الأسعار جزءا من ثقافة الحوار اليومي في المجتمع.
ففي 2001 كان البيزو يساوي دولارا أمريكيا، واليوم يبلغ سعر الصرف في السوق الموازية 357 بيزو لكل دولار، وأصبح كثير من الفنانين في الأرجنتين يستخدمون النقود الحقيقية في أعمالهم الفنية للتعبير على أنها بلا قيمة.
وفي ظل تلك الأوضاع ربما تكون كرة القدم ومهارات ميسي وذكريات مارادونا وسيلة الأرجنتينيين لنسيان مشكلاتهم الاقتصادية في بلد لا يبدو أنه قادر على الخروج من نفق الاضطراب الاقتصادي المظلم في أي وقت قريب.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من تقارير و تحليلات