تقارير و تحليلات

«يموت العشب بتصارع الأفيال» .. الشركات الخاسر الأكبر من فصل التشابك الصيني - الألماني

«يموت العشب بتصارع الأفيال» .. الشركات الخاسر الأكبر من فصل التشابك الصيني - الألماني

عندما تتصارع الأفيال يموت العشب، مثل إفريقي والبعض يقول هندي، لكن أيا كان أصل المثل فلا شك أنه يتضمن كثيرا من الحكمة، فعندما تصارع الصين تنين القارة الآسيوية وثاني أكبر اقتصاد في العالم، النسر الألماني أقوى اقتصادات القارة الأوروبية والرابع في الترتيب العالمي، فمن المؤكد أن كثيرا من الشركات ورجال الأعمال على الجانبين سيدفعون ثمنا باهظا لهذا الصراع.
الحظر الأخير الذي فرضته الحكومة الألمانية بشأن بيع شركتين ألمانيتين لصنع الرقائق الالكترونية إلى مستثمرين صينيين يعكس الموقف المتغير في العلاقة بين العملاقين الاقتصاديين، ويضع عراقيل لا يستهان بها أمام الازدهار التكنولوجي الصيني، ويكشف عن شعور غربي عام وألماني تحديدا بمدى التهديد الذي يشعرون به من القفزات التي تحققها الصين في التكنولوجيا.
لكن كثيرا من الخبراء يرون أن القضية لا تقف عند حدود حظر بيع شركتين تكنولوجيتين أو حتى شعور ألماني بأن الصين باتت تهديدا تكنولوجيا لها، إنما يعكس القرار تحولا أوسع في الطريقة التي تعامل بها ألمانيا الاستثمارات الصينية، فعالم اليوم مختلف تماما مقارنة بتسعينيات القرن الماضي أو حتى أوائل العقد الأول من القرن الـ21 عندما كان الغرب وألمانيا جزءا من اتجاه دولي يفتح ذراعيه مرحبا بالاستثمارات الصينية في المجالات كافة.
من جانبه، قال هاري جاك الخبير الاستثماري لـ"الاقتصادية" إن "حظر الاستثمارات الصينية في دولة مثل ألمانيا سيكون البداية لمزيد من الحظر الذي ستواجه الاستثمارات الصينية في معظم إن لم يكن كل الدول الأوروبية، فهناك تغيرات في رؤية أوروبا للصين، نتيجة الوضع الجيوسياسي الجديد الناجم عن الحرب الروسية لأوكرانيا.
وذلك إلى جانب التغييرات في الحكومة الألمانية بعد خروج ميركل من سدة الحكم، ووصول أولاف شولتز العام الماضي، فالدرس الأول الذي تعلمته ألمانيا أنه من السيئ للغاية الاعتماد على شريك تجاري واحد، والصين هي الشريك التجاري الأول للواردات الألمانية.
وتشير الأرقام المتاحة إلى أن ألمانيا خلال عام 2022 لم تحظر فقط بيع شركتين للرقائق الإلكترونية لمستثمرين صينيين، لكن أعاقت برلين عديدا من عمليات الاستحواذ الصينية على مدار العام، إذ حظرت بيع منتجات الجهاز التنفسي "هاير" إلى شركة صينية تدعى "مجموعة إيونمد"، ووافقت على خفض حصة استثمار شركة الشحن الصينية كوسكو في أحد موانئ شركة الخدمات اللوجستية الألمانية "إتش إتش إل أيه" في هامبورج.
وخلال عام 2022، لم يكن هناك سوى ثمانية مشاريع صينية جديدة مسجلة في ألمانيا، بينما تكشف بيانات عام 2021 بأن الاستثمارات الصينية في ألمانيا بلغت 76 مشروعا.
باختصار، تبدو ألمانيا وعديد من الدول الأوروبية الأخرى إضافة إلى المملكة المتحدة أكثر تركيزا على تنويع التجارة الخارجية وتقليل الاستثمار من وإلى الصين، بما يبدو في نظر البعض خطوة في طريق تفكيك الشراكة الأوروبية - الصينية عامة والألمانية خاصة.
بدوره، ذكر لـ"الاقتصادية" الدكتور هنري تيدي أستاذ الاقتصاد الدولي في جامعة ليدز، إن "العلاقة التي جعلت ألمانيا تزود الصين بالآلات اللازمة لتشغيل اقتصادها، ساعدت الاقتصاد الألماني على التعافي السريع بعد الأزمة المالية عام 2008، لكن مع وصول الرئيس ترمب لسدة الحكم في البيت الأبيض، بدأ ينمو وعي غربي وأوروبي بأن نموذج الشراكة الاقتصادية القائم مع الصين لم يعد يعمل، وتحول النموذج من نموذج الشراكة والتعاون إلى نموذج المنافسة".
ويستدرك قائلا "المشهد أيضا يتغير من جانب الصين وليس ألمانيا فقط، فالمصدرون الألمان لا يحصلون على دعم أو ترحيب من الصين كما كان الوضع قبل عقد من الزمان، ويرى الألمان أن ذلك يحدث لأن بكين تشجع الشركات الصينية المصنعة للآلات على إنتاج مزيد منها لتكون قادرة على المنافسة مع السلع الرأسمالية الألمانية المتطورة التي لم يكن لها مثيل من قبل، وبالنسبة للمصدرين الألمان هذا لا يعني أن البيع في الصين بات أكثر صعوبة، وإنما الأكثر خطورة أن الشركات الصينية تظهر بشكل أكبر كمنافسين للألمان في أماكن أخرى".
لما يقرب من عقدين احتاجت الصين إلى الروبوتات الصناعية الألمانية ومعدات المصانع والمركبات، لتصبح بفضل تلك القوى الآلية مصنع العالم خاصة للسلع الاستهلاكية، ومن جانبها رحبت ألمانيا بذلك إذ ساعدها على أن تصبح أكبر مصدر في العالم للسلع خاصة الهندسية وللمركبات وتفوقت بذلك على الولايات المتحدة، والأهم أنه سمح للشركات الألمانية بالحفاظ على معدلات توظيف عالية، وبينما كانت قطاعات صناعية استراتيجية تهاجر الولايات المتحدة إلى الصين، ظلت نظيرتها الألمانية راسخة في بلدها لم تغادرها نتيجة فرص العمل المتاحة.
اليوم يبدو المشهد متغيرا ومقلقا للأوروبيين خاصة ألمانيا، فالشركات الصينية تصدر توربينات الرياح لفرنسا، والحافلات للنرويج، وشبكات الطاقة لبولندا، والآلات الصناعية المتقدمة التي تنافس نظيرتها الألمانية إلى جميع أنحاء العالم، بل ظهرت قطاعات كانت تبدو ألمانيا نموذجا يصعب منافسته فيها مثل حفر الأنفاق، مع حصول مجموعة صينية أخيرا على عقد لحفر ثلاثة أنفاق لمترو العاصمة السويدية ستوكهولم.
هنا يضرب المهندس دي. إم . تومي من الاتحاد البريطاني للتصنيع الهندسي، مثلا بشركة هيرينكنخت آي جي الألمانية الرائدة في مجال حفر الإنفاق، التي تغير وضعها في الأربعة أعوام الأخيرة، وانخفضت مبيعاتها بنحو 5 في المائة سنويا، لأن شركات البناء الكبرى في الصين طورت آلات الحفر الخاصة بها، ولا تحتاج إلى شراء آلات من أحد، بل إن شركات أمريكية دولية كبرى تعمل في المجال قررت الاندماج معها.
هذه الشركة، استمرت لمدة 15 عاما في تقديم الدعم الأساسي لمشاريع البنية التحتية في جميع أنحاء آسيا، خاصة في الصين وتحديدا المدن الكبرى مثل شنغهاي وبكين، وأسهمت أعمالها في الصين في ارتفاع إيرادات الشركة سبعة أضعاف بين عامي 2000 و2015 لتصل إلى 1.5 مليار دولار، وإيجاد آلاف الوظائف في المنشأت التصنيعية للشركة في ألمانيا.
وأضاف تومي لـ"الاقتصادية"، أن "الشركات الصينية أكثر قدرة على المنافسة في الأسواق الدولية وتقدم أسعار منخفضة بشكل غير عادي، والأكثر خطورة أنها في القطاعات الرئيسة للتصنيع المتقدم أغلقت الصين الفجوة مع الشركات الألمانية".
وبالفعل تقلصت حصة ألمانيا من التجارة العالمية في سلع الهندسة الميكانيكية، وهو قطاع يوظف 1.3 مليون ألماني، وبينما تراجعت حصة ألمانيا من 19 إلى 16 في المائة، ارتفعت حصة الصين من 8.5 إلى 13.5 في المائة.
لكن أكثر ما يقلق ألمانيا يظهر في تنامي الشعور لدى المسؤولين وكبار رجال الأعمال بأن الصين ستظل في حاجة إليهم طالما ظلت ألمانيا متفوقه تكنولوجيا على الصين، لكن مع إغلاق تلك النافذة وتحقيق الصين مزيدا من التقدم خاصة في مجال التكنولوجيا، فإن المعادلة بين البلدين تختل لمصلحة الصين.
مع هذا لا يتردد بعض الخبراء في الإشارة إلى أن رفض أو تقليص الأعمال التجارية والاستثمارية مع الصين ترف لا تستطيع ألمانيا أو أوروبا تحمله، فعلى سبيل المثال يمتلك المستثمرون الصينيون 10 في المائة من طاقة الموانئ الأوروبية، والتعامل مع هذا الوضع حقيقة وليس خيارا، كما أن البعض يرى أن ألمانيا تحديدا منقسمة بشأن التعامل مع الصين وكيفية صياغة علاقة استراتيجية مثمرة معها.
من ناحيته، ذكرت لـ"الاقتصادية" الدكتورة إبيجيل جورج أستاذة العلوم السياسية في جامعة كامبريدج، "وجدت دراسة أجراها الاتحاد الأوروبي هذا العام وفي أعقاب الحرب الروسية لأوكرانيا، أنه من بين 137 سلعة ومنتجات تعد بالغة الأهمية فإن 3 في المائة منها يتم توفيره من روسيا، لكن 50 في المائة منها يتم توفيره من الصين، وهذه السلع تتعلق بشكل أساسي بقطاع الرعاية الصحية والطاقة المتجددة".
وأضافت "من جانب آخر يوجد في الصين ما لا يقل عن 5000 شركة ألمانية، وأكثر من مليوني وظيفة ألمانية تعتمد على الصادرات للصين، ومن ثم فإن اقتصاد البلدين متشابك، ومحاولة الفصل بينهم سيكون لها تداعيات ضارة للغاية بالبلدين".
وترى أن إقامة علاقة اقتصادية مثمرة بين الجانبين يتطلب درجة أعلى من الشفافية تفتقدها الاستثمارات الصينية في ألمانيا حاليا، لكن أيضا يتطلب مرونة أعلى من الجانب الألماني في تعامله مع المستثمرين الصينيين، حيث يجب ألا يبدو الأمر كأنه استهداف متعمد لعرقلة نمو الصين وتطورها.
وأكدت أنه يجب فهم لعبة النمو الاقتصادي بين الصين وألمانيا باعتبارها لعبة مربحة لجميع الأطراف وليس لعبة صفرية، فأرباح الصين لا تعني بالضرورة خسارة ألمانيا والعكس صحيح أيضا، فالخاسر الأكبر من الصراع الصيني الألماني سيكون الشركات التي ستتقلص أسواقها، والعمال الذين سيتم التضحية بهم على مذبحة تراجع إيرادات الشركات.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من تقارير و تحليلات