تقارير و تحليلات

الديون حاضرة بقوة في 2023 .. أزمة تنغص مضجع الاقتصاد العالمي وتطول الجميع

الديون حاضرة بقوة في 2023 .. أزمة تنغص مضجع الاقتصاد العالمي وتطول الجميع

لمدة عقد من الزمان كانت أزمة الديون تلوح في الأفق، لكنها لم تكن القضية رقم واحد على جدول الأعمال الدولي أو في المناقشات السنوية، في اجتماعات المؤسسات المالية العالمية كصندوق النقد والبنك الدوليين.
هذا المشهد بدأ يتغير في الأشهر الأخيرة من 2022، والمؤكد أننا سنشهد مزيدا من التغيير الجذري في الموقف الدولي من قضية الديون لتصبح بين ليلة وضحاها القضية رقم واحد على جدول أعمال الاقتصاد العالمي في 2023.
وفقا لصندوق النقد الدولي فإن هناك عددا مذهلا ومقلقا من الدول منخفضة الدخل معرض حاليا لخطر أزمة الديون أو التخلف عن سداد الديون في 2023. نسبة الدول التي قد تعجز عن سداد ديونها في قائمة الدول منخفضة الدخل تبلغ 60 في المائة، وإذا ما حدث هذا وباتت تلك الدول عاجزة عن التعامل مع ديونها، فإن الأكثر خطورة أن صندوق النقد الدولي ربما لا تكون لديه الموارد الكافية لإمداد تلك الدول بالقروض التي ستحتاج إليها للبقاء واقفه على قدميها، وتوفير الاحتياجات الأساسية لمواطنيها.
من جانب آخر، حددت الأمم المتحدة 54 اقتصادا ناميا تعاني مشكلات ديون حادة، وعلى الرغم من أن تلك الاقتصادات مجتمعة تمثل ما يزيد قليلا على 3 في المائة من الاقتصاد الدولي، إلا أنها تمثل 18 في المائة من سكان العالم، وأكثر من 50 في المائة من الأشخاص الذين يعيشون في فقر مدقع.
لكن ما كشف عنه عام 2022 الذي سيكون أكثر وضوحا في عام 2023 أن مشكلة الديون لا تقتصر على الدول منخفضة الدخل، فقد أظهرت الأزمة السريلانكية وتخلفها عن سداد ديونها، أن عديدا من الدول ذات الدخل المتوسط تكافح أيضا لسداد فوائد الدين، علاوة على أصل القروض التي استدانتها عندما كانت أسعار الفائدة منخفضة والتضخم أقل كثيرا.
الدكتورة دورثي بنجامين أستاذة الاقتصاد الدولي والاستشارية في عدد من المنظمات الدولية ترى أن مشكلة الديون ستكون حاضرة بقوة في 2023، خاصة مع تزايد احتمالات عجز مجموعة من الاقتصادات الناشئة عن سداد ما عليها من ديون. لكنها تحمل دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة المسؤولية.
وتقول لـ"الاقتصادية"، "إن نحو 25 في المائة من الأسواق الناشئة إما في ضائقة ديون أو معرضة لخطر كبير نتيجة ذلك، ومنذ الأشهر الأولى من 2022، رفع الاحتياطي الفيدرالي ولاحقا البنك المركزي الأوروبي أسعار الفائدة بقوة لخفض التضخم، وزادت نتيجة ذلك قوة الدولار في أسواق العملات الدولية، ونظرا لأن 90 في المائة من ديون الأسواق الناشئة مقومة بالدولار، فإن عملة الولايات المتحدة القوية تجعل السداد باهظ التكلفة، كما أن تكاليف الاقتراض بالنسبة للدول المثقلة بالديون في تزايد".
وتضيف "القدرة الاقتراضية للدول منخفضة الدخل ومتوسطته في تراجع، فثلثا تلك الدول لديها عائدات سندات تزيد على 10 في المائة، ولم يعد بإمكانها الاقتراض من القطاع الخاص، وإذا لم تتمكن تلك الدول من إعادة تمويل سنداتها فستواجه أزمة مديونية".
يرجح الخبراء أن تكون قضية الديون في مقدمة جدول الأعمال الدولي في 2023، نظرا للتباطؤ المتوقع في معدلات نمو الاقتصاد العالمي، التي لن تتجاوز 2.7 في المائة في العام المقبل، ومن ثم ستكون الاقتصادات الناشئة والنامية أقل قدرة على سداد مديونيتها، أو أن يكون البديل سداد مديونيتها على حساب تقليص الموارد المالية الموجه إلى الكهرباء والماء والتعليم والصحة والتغذية ومكافحة التغيير المناخي، ما يعني عمليا تراجع مستوى معيشة مواطنيه، وما يرافق ذلك غالبا من اضطرابات وعدم استقرار اجتماعي.
ويقدر البنك الدولي أن 74 دولة فقيرة تبلغ القيمة الإجمالية لخدمة ديونها مجتمعة 64 مليار دولار في 2022 ارتفعت بنسبة 35 في المائة عن 2021.
أزمة الديون، على الرغم من الثقل الذي تتركه على اقتصادات الأسواق الناشئة، مشكلة ذات بعد عالمي، فإجمالي الدين العالمي يبلغ نحو 290 تريليون دولار، أي ما يعادل 343 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وسط توقعات بأن يرتفع الدين العالمي في العام المقبل، كما أن تكاليف خدمة الديون ارتفعت بشكل كبير في 2022 لتصل إلى 1.16 تريليون دولار.
من جهته، يعتقد البروفيسور ديفيد هيرسون العضو السابق في اللجنة المالية لمجموعة نيت ويست المصرفية أن عدم استقرار الاقتصاد العالمي يجعل قضية الديون قضية منغصة لمضجع جميع الاقتصادات، بصرف النظر عن درجة تطورها.
ويقول لـ"الاقتصادية"، "إن الأعوام الأخيرة شهدت تقلبات قوية في معدلات النمو، فمن 6 في المائة في 2021 إلى توقع معدل نمو 2.7 في المائة العام المقبل، وقد أسهم الركود الاقتصادي في بداية وباء كورونا في حدوث انخفاض واضح في الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وهو ما انعكس في الارتفاع الحاد في نسبة الديون إلى الناتج المحلي الإجمالي في 2020، لكن مع انتعاش الاقتصاد في 2021 انخفضت نسبة الديون للناتج المحلي الإجمالي، لتعاود الارتفاع في 2022 نظرا للاضطراب الاقتصادي الناجم عن الحرب الروسية - الأوكرانية وأزمة الطاقة".
ويضيف "التضخم المرتفع والمتقلب أثر أيضا في معدلات الديون، إذ كان على الحكومات أن تستدين لدعم احتياجات مواطنيها من السلع خاصة الغذائية، التي ارتفعت بشدة مع الحرب الروسية - الأوكرانية وارتفاع أسعار المحروقات".
مع هذا فإن أزمة المديونية ستمتد أيضا إلى كثير من الاقتصادات المتقدمة، لكن وطأتها لن تكون بالثقل ذاته الذي ستعانيه الدول الفقيرة والنامية، كما أنها تختلف من دولة إلى أخرى.
وفي هذا السياق، تعلق لـ"الاقتصادية" مايا ستانلي الباحثة في المعهد الوطني للبحوث الاقتصادية والاجتماعية قائلة، "الولايات المتحدة الأمريكية خلال مائة عام ارتفع إجمالي ديونها من 409 مليارات دولار عام 1922 إلى نحو 31 تريليون دولار هذا العام، ورغم ما يمثله ذلك من ضغوط على الاقتصاد الأمريكي، إلا أنه من المستبعد أن تمثل تلك المديونية الضخمة عائقا أمام الاقتصاد الأمريكي للنمو، بينما نجد أن ارتفاع تكاليف الاقتراض لإيطاليا المثقلة بالديون والعضو في مجموعة السبع مقلق للغاية جدا".
وتضيف "كما أن ألمانيا لا تبدو أيضا بعيدة عن مشكلة الديون، فقد تعهدت بزيادة إنفاقها الدفاعي إلى أكثر من 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي منذ اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية، إلى جانب تخصيص 110 مليارات دولار لصندوق خدماتها المسلحة، وارتفاع أسعار الطاقة أدى إلى ارتفاع كبير في فاتورة تمويل استهلاك الطاقة في ألمانيا، بالنسبة إلى المملكة المتحدة فإن إجمالي الديون يتجاوز حاليا تريليونين و770 مليار جنيه استرليني، بحيث بلغت ديون الحكومة البريطانية 5170 جنيها استرلينيا في الثانية الواحدة".
وتشير إلى أنه رغم ذلك فإن الوضع الاقتصادي العام لا يزال أفضل في الاقتصادات المتقدمة عنه في الأسواق الناشئة، ما يمنحها مرونة أعلى في التعامل مع أزمة المديونية لديها.
إذن فمن المؤكد أن إدارة مستويات الديون المرتفعة ستكون صعبة على الجميع في 2023، خاصة إذا ما تباطأ نمو الاقتصاد العالمي أو أصيب بحالة من الركود، ما يعني أن الحكومات ستعمل على بناء استراتيجيات مالية تساعد على تقليل الضغط التضخمي ومخاطر الديون، عن طريق احتواء نمو الإنفاق، ومن شأن هذا أن يساعد البنوك المركزية ويسمح بزيادات أقل في أسعار الفائدة.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من تقارير و تحليلات