الابتكار على طريق الرؤية

في حديث يحمل دلالات عميقة للمفاهيم الاقتصادية التي يرتكز عليها الاقتصاد الحديث، قال الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء "إن لدينا عقولا وطاقات شغوفة بالابتكار والإبداع، وبتمكينها ستكون السعودية بيئة خصبة للاقتصاد المعرفي"، وقد جاء حديث ولي العهد بعد أن أطلق الاستراتيجية الوطنية للملكية الفكرية، التي تعد إحدى ممكنات تحقيق مستهدفات رؤية المملكة 2030، وعندما نقول إنه يحمل دلالات عميقة ذلك أنه تضمن أبرز المفاهيم الاقتصادية التي يرتكز عليها الاقتصاد الحديث، الابتكار والإبداع والاقتصاد المعرفي، هذه المفاهيم أصبحت مرتكزا للاقتصاد الجديد، وهناك سباق عالمي نشهده كل يوم وصراع كبير للهيمنة على هذه الاقتصادات الحديثة، حيث إنها نماذج للاقتصاد المستقبلي والمجتمع المستقبلي بشكل عام، ولهذه الأهمية البالغة فقد لا يخلو نقاش اقتصادي من محاولة فهم دور الإبداع والمعرفة والابتكار في النمو الاقتصادي، وتأثيرها البالغ في التوظيف، فالمعرفة اليوم تعد أهم مورد اقتصادي في العالم، ويعد رأس المال الفكري منتجا عظميا للثروة، فيما لو تم استخدام كل تلك الأدوات في سياق اجتماعي، وهنا تظهر أولى المشكلات عندما يتم تحجيم الإبداع في قوالب نمطية، وحصره في مجالات معينة.
عرفت "الأونكتاد" الاقتصاد الإبداعي بأنه "النشاط الاقتصادي القائم على استغلال الأصول الإبداعية التي يمكن أن تولد النمو الاقتصادي، وتقود إلى التنمية الاقتصادية"، وبهذا التعريف وسعت "الأونكتاد" مفهوم "الإبداع" من الأنشطة الفنية والثقافية ليشمل "أي نشاط اقتصادي ينتج منتجات تعتمد على الملكية الفكرية، ولأوسع سوق ممكنة". ونموذج "الأونكتاد" للاقتصاد الإبداعي يتألف من دورة إنشاء وإنتاج وتوزيع السلع والخدمات التي تستخدم الإبداع ورأس المال الفكري كمدخل أساسي لها، ويتضمن التفاعل بين القطاعات التقليدية والقطاعات التكنولوجية المكثفة والموجهة نحو الخدمات، ويشمل هذا النموذج صناعات عديدة مهمة مثل الإعلان، والهندسة المعمارية، وسوق الفن والتحف، والحرف اليدوية، والتصميم، والأزياء، والأفلام والفيديو، والموسيقى، وفنون الأداء، والنشر، والبرمجيات، والتلفزيون والراديو، والفيديو، وألعاب الكمبيوتر.

في مقابل هذا يشير تقرير المنظمة العالمية للملكية الفكرية WIPO إلى أن القرارات المتعلقة بالابتكار - التي تفهم على أنها منتجات وعمليات تجارية جديدة - ليست كلها سهلة الصنع، ذلك أن هناك تنافسا قائما وشرسا بين التكنولوجيا القائمة وتلك المنتجات الجديدة المبتكرة، والصعوبات تتراكم أمام المنتجات الابتكارية الجديدة من حيث إن المواد الخام المتاحة والإمكانات الصناعية غير مناسبة، لذلك، ترى المنظمة العالمية للملكية الفكرية WIPO في تقريرها بشأن اتجاه الابتكار أن تحديد المسار التكنولوجي الذي يتعين اتباعه ليس بالمهمة البسيطة، فحتى لو كانت الأفكار والفرص وفيرة فإن توافر الموارد الاقتصادية للاستثمار في الابتكار هو الأهم، ومن بين أهم الموارد مدى توافر الموهوبين من المهندسين أو العلماء أو رواد الأعمال وكذلك الموارد المالية التي يمكن تخصيصها لأنشطة الابتكار، كل هذا يضع تحديات كبرى أمام أي رغبة في التحول نحو اقتصاد إبداعي، ما يتطلب خططا استراتيجية واضحة المعالم تسهم في رسم طريق ممهد نحو المستقبل، هذا الطريق وصفه الأمير محمد بن سلمان في حديثه عن الاستراتيجية الوطنية للملكية الفكرية التي ستوفر منظومة متكاملة للملكية الفكرية تدعم تطوير التقنيات والصناعات المبتكرة وتسهم في نمو المنشآت، كما ستمكن الاستراتيجية الوطنية للملكية الفكرية من تحفيز الاستثمار وتوفير وظائف عالية الجودة ورفع مستوى الوعي بحقوق المبدعين والمبتكرين. فالاستراتيجية الوطنية للملكية الفكرية تعمل على رسم اتجاه للابتكار في المملكة العربية السعودية من أجل بناء اقتصاد إبداعي معرفي، ولتحقيق هذا الغرض فقد ارتكزت الاستراتيجية الوطنية للملكية الفكرية على أربع ركائز أساسية، هي: توليد الملكية الفكرية وإدارتها والاستثمار التجاري للملكية الفكرية وحمايتها.
"اتجاه الابتكار" وفقا لتعريف المنظمة العالمية للملكية الفكرية هو مزيج أو مجموع جميع القرارات التي يتخذها الأفراد والشركات والجامعات والحكومات بشأن الفرص التكنولوجية التي يتعين اغتنامها في أي وقت، ما يمكن الحكومات والشركات من إعادة توجيه الاستثمار المرتبط بالابتكار، ومن ذلك ما حدث بشأن اكتشاف اللقاحات والموافقة عليها وإنتاجها بكميات كبيرة لمواجهة جائحة كوفيد - 19، فاكتشاف اللقاحات ومن ثم توفير الموارد والتفاعل بين الأجهزة التشريعية والتمويلية والدعم اللوجستي من أجل الوصول بأقصى سرعة ممكنة إلى هذا التحول الطبي، لم يكن ليحدث لولا التقدم الكبير في مفاهيم إدارة الابتكار، وهذا هو ما ارتكزت عليه الاستراتيجية الوطنية التي رسمت منهجية منذ لحظة توليد الأفكار وانتظام العناصر الأخرى التي لا تقل أهمية، وهي إدارة الأفكار وتوفير الموارد لتحقيقها على أرض الواقع، ثم العمل على استثمارها مع حمايتها في آن معا، ولتحقيق هذه الركائز، لا بد من التعاون والتكامل بين الجهات الوطنية، بوصفها شريكا أساسيا لدعم الابتكارات والإبداعات ونمو الاستثمارات على مستوى العالم، من خلال أهداف الاستراتيجية الوطنية للملكية الفكرية، التي تعزز قدرة المملكة على توليد أصول ملكية فكرية ذات قيمة اقتصادية واجتماعية.

هكذا تعمل الخطة الاستراتيجية الوطنية وفقا لمفهوم اتجاه الابتكار من أجل بناء عدد من المبادرات، التي أسندت إلى الجهات الحكومية وفق إطار حوكمة يحدد الأدوار والمسؤوليات، التي تتضمن اتخاذ القرارات بشأن القضايا المهمة المتعلقة بتنفيذ مشاريع الاستراتيجية، وتوفير الدعم لها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي