ثقافة وفنون

قراءات

قراءات

قراءات

قراءات

طائر الوحشة

كل هذا حدث في الزمن الغابر، كنا أطفالا مهلهلي الثياب، نبحث في الأسواق عمن يرتقها لنا، بينما كانت أمـنا تهيئ خيرا من فئات موائد لا تأكلها حتى الحيوانات، كل ذلك كان في الزمن الغابر، رغيف الخبز صار أسود ونـحـولا إلى حجم حبة الأسبرين، قيل إن القحط وثمة أشياء أخرى تحدث، ما دفع والدنا العجوز أن يصرر ثيابه ويبيعها في سوق الهرج وحينما أساله يقول، كان ذلك في الزمن الغابر، وحين كبرنا تعلمنا من والـدنـا أسلوب التصفية، فكنا نصفي كل ما نجده في البيت، رأس القنينة، أسلاك الغسيل، أحذية بلاستيكية قديمة، ملابس ممزقة. حقائب مدرسية بـالية، بطانيات ولحـف تحولت ألوانها إلى الأسود القائم، عليها خرائط بولنا ومخاوف ليالينا الماضية، كراسي ومناضد، فوانيس تهشمت زجـاجـتها، كل ذلك حدث في الزمن الغابر، ثم تحولنا إلى بالغين ودوارة متجولين في الأسواق والأزقة البعيدة، وعلى الأرصفة بعنا ملابسنا الداخلية وكتبنا الميتة وعظام أفكارنا المحتضرة مع مفردات كثيرة من الخردوات براغ، مسامير، مطارق، براميل ملكات، علب تنك، أباريق فافون، دمى نايلونية کناکیت توصوص حتى الموت من الجوع والعطش.

سنوات ضاعت


هذه المذكرات سنوات ضاعت .. مسترجعة هنا الجزء الأول من هذه المذكرات المهمة الصريحة والطريفة في آن واحد، عن حياة العراقيين في أعوام الخمسينيات وبداية الستينيات، وتكاد تكون مشتركة مع حياة أغلب العراقيين بصورها وأحداثها وظروفها. والدكتور صبيح صادق ينقل لنا وجهة نظر ذلك الطفل الذي كان وما مر به من أحداث في مدن ولادته ومعيشته، مطعما ذكرياته بما حدث آنذاك من حكايات ومصائر ورؤى عراقية وعربية وعالمية، وإن مر عليها عشرات الأعوام، إلا أنها لا تزال طازجة وغنية بالمعارف والطباع البشرية. هذه المذكرات جزء لا ينفصل عن تكوين العراق وبيئته وناسه ومدنه، ما اندثر منها وما بقي في الأذهان أو على أرض الواقع. رحلة عمر يسترجعها بلغة رشيقة عراقي ترك الوطن بداية الثمانينيات ليستقر في إسبانيا، لكنه ما زال متعلقا بها وبناسها ومدنها وصورها الملونة أو تلك التي انطبعت بلونيها الأبيض والأسود.

أبيض رمادي أسود

تقمص إبراهيم دور رجل أعمى داخل غرفة شديدة العتمة، يتذكر وقتها بأنه سقط لعدة مرات وجرح إحدى أصابع قدمه اليمنى، لا يتذكر أي إصبع من أصابعه الخمس، لكنها نزفت وبقيت تؤلمه ليومين كاملين. وكلما دخل غرفة مظلمة فيما بعد يشعر بألم يصعد دبيبه من أسفل قدمه إلى أن يصل قمة رأسه ثم يختفي بعد أن يعصره، لم ينجح إبراهيم في أن يكون رجلا أعمى لبضع دقائق، ولم ينجح بأن يكون كطائر مالك الحزين لصباح يوم واحد أيضا لأن حزنه كان أقل من المطلوب ورقبته لم تكن طويلة كما ينبغي كذلك ساقاه كانتا أقصر من أي حلم. كان هذا عندما كان شابا ولم تكن عقارب الساعة حينها تضحك رأسه، كان يبتسم فقط وهو يهضم الوقت بتأن كما تهضم سبع معيز قنطارا من العشب بين نهارين قصيرين ورطبين.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون