التخطيط المهني المبكر .. مشكلة مبدأ

ينشأ تحدي التخطيط الوظيفي من المرحلة الجامعية. بعد حل مشكلة اختيار التخصص، يبدأ الطالب في سبر أحلامه المرتبطة بالوظيفة، التي قد تبدأ بداية جيدة بوظيفة في مجال تخصصه وقد تصطدم بكثير من العقبات بعد التخرج. المشكلة أن معظم هذه الأحلام لا تتحول إلى خطة مهنية واضحة وواقعية توضح لصاحبها نقاط الاستثمار الرئيسة والعوائد المتوقعة. رأيت كثيرين يبدؤون رحلتهم المهنية بوظيفة لا يستمرون فيها لأكثر من بضعة أشهر.
وآخرون يستغلون الشراهة الموجودة في بعض عارضي الوظائف فينتهي العامان الأولان من حياتهم المهنية دون منحنى مكتمل للتعلم يؤسسهم بشكل جيد، تزيد من أعوام الخبرة في السيرة الذاتية بينما خبرته الحقيقية أقرب للصفر. تراه يعرف كثيرا من الشهادات المهنية لكنه يؤجل الحصول عليها لثلاثة أو أربعة أعوام، وتراه يترك مكان عمله ـ كل مرة ـ في اللحظة الأخيرة التي تسبق بناء الثقة برؤسائه، ويحصل في خضم ذلك على عدد من التجارب غير المكتملة والخالية من الإنجازات.
يتملل مثل هؤلاء من وظائفهم الحالية، ستسمع عبارات مثل، "مديري سيئ، لا أتعلم بشكل جيد، الأجواء غير مناسبة، التكرار يبعث على الملل". والحقيقة هذه كلها من أسباب تغيير الوظيفة إلى الأخرى المصاحبة لها مثل، "فرصة مالية أفضل" و"التطور المهني". لكن ما لا يعلمه هؤلاء أن التغيير ليس شرطا للحصول على وضع أفضل، فكثير من الشركات المحلية لا تزال في طور النمو وربما التأسيس، وهذا يعني أن الإدارة جديدة وطريقة تنفيذ الأعمال ليست راسخة، ستكون هناك كثير من التجارب، وسيشاهدون بيئة العمل وهي في طور التشكيل، ليست ذات ملامح محددة أو تفاصيل معروفة، حوكمة متفاوتة ونماذج تشغيلية ضعيفة.
لهذا يعد التغيير في معظم المراحل المبكرة خطوة ذات مخاطر عالية. البقاء في وظيفة فيها عيب ما أفضل من الانتقال إلى وظيفة أخرى فيها عيب آخر، خصوصا في بداية الحياة المهنية، لماذا؟ لأن البقاء والتعلم سيمكن الشخص من اكتشاف طريقة التعايش أو أسلوب حل المشكلة الموجودة، بينما التغيير السريع يمثل الهروب بلا تعلم.
ما هو البديل إذن؟ البديل يكون في تعظيم الاستفادة من التجربة الحالية. وبهذا لا أعني التردد في تغيير الوظيفة والبقاء في سجن الواقع وكأنه أمر محتم علينا، هناك جوانب معينة إذا اجتمعت لا بد من عملية التغيير، وللتغيير نقاط تحول ضرورية إذا اجتمعت قامت الحجة المنطقية للقيام به. ما نقوله هو أن الاستمرار في الوظيفة نفسها أو تغيير الوظيفة يجب أن يكون وفق مبدأ محدد، وأن يكون الالتزام به واضحا جدا. يقوم هذا المبدأ على فكرة التطور الوظيفي، تحقيق الأهداف الحياتية قائم على النجاح الوظيفي، والنجاح الوظيفي يعتمد على سرعة وفاعلية التطور الوظيفي، ولهذا ينبغي أن يكون لدى الشخص تصور واضح بما يعني التطور الوظيفي له، ما هي ملامحه ومستهدفاته من وجهة نظره القائمة على الرغبة والمعرفة والاستشارة. في غياب ذلك ستكون هناك كثير من القرارات الخاطئة والفرص الضائعة.
من يقيم تغيير الوظيفة وأثر ذلك في مساره المهني على المدى الطويل سيعرف كيف يؤقت خطواته الانتقالية وستكون أسباب تغييره للوظيفة قائمة على رغبات ذاتية سليمة، مثل، "حان الوقت لاستكشاف مجال آخر أهتم به" أو "وجدت فرصة متوافقة مع تطوري المهني"، وليس تبريرات واهية مثل التشبث بفكرة المدير أو المال أو الهروب من الضغط.
وجود تصور للتطور الوظيفي يعني، التخطيط المبكر، الاستفادة من تجارب الآخرين، محاولة النظر والتفكر في الخيارات المختلفة، والاستعداد الذهني والنفسي للمضي في مسار أوضح من ملامحه التعب والمشقة. هذا المسار لا يخلو من الاستمتاع والترويح عن النفس لكن بذل الجهد والتحمل وربما إخضاع الذات لأسلوب وسلوك معين من بديهيات تجربة هذا المسار. لهذا نجد أنه من الطبيعي أن نرى معظم الناجحين في مساراتهم المهنية قد قضوا عددا من الأعوام الصعبة وأبدوا فيها قدرة واضحة على التمسك بالمبدأ وما يتطلبه من ثبات وتحمل، ونالوا بذلك ما تعبوا عليه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي