تقارير و تحليلات

المدفوعات الرقمية تتسارع كقاعدة عالمية للتداولات .. تحول لن يتلاشى بعد الجائحة

المدفوعات الرقمية تتسارع كقاعدة عالمية للتداولات .. تحول لن يتلاشى بعد الجائحة

المدفوعات الرقمية تتسارع كقاعدة عالمية للتداولات .. تحول لن يتلاشى بعد الجائحة

قبل أيام أعلنت "باي بال" الأمريكية أن الربع الأول من هذا العام يعد أقوى ربع أول لها على الإطلاق، إذ عالجت الشركة التي يقع مقرها الرئيس في ولاية كاليفورنيا في الولايات المتحدة، ما مجموعه 285 مليار دولار من المدفوعات الرقمية بزيادة 50 في المائة عن العام السابق، كما نجحت في إضافة 14.5 مليون عميل جديد للشركة.
النجاح الذي تحققه الشركات العاملة في القطاع يعد نموذجا للانتعاش الحادث في مجال المدفوعات الرقمية على الصعيد العالمي، فسواء كنت في بومباي أو شنغهاي أو نيويورك، فإن القاسم المشترك بين دول العالم كافة، يظهر في تأثر معظم الناس بالاستخدام المتنامي للمدفوعات الرقمية في الحياة اليومية، بحيث بات النمو المتواصل في معدلات الاعتماد على محافظ الهاتف المحمول وتطبيقات الدفع الرقمية أو المجموعات الأخرى من الحلول دليلا على دخولنا عصر جديد من أساليب الدفع، بما يؤدي إلى تراجع مفهوم الدفع نقدا لمصلحة الدفع إلكترونيا.
تشير التقديرات الأولية بأن سوق المدفوعات الرقمية بلغت أكثر من ستة تريليونات دولار العام الماضي، وأنه سيتجاوز عشرة تريليونات دولار بحلول 2025، بحيث يبدو أن النقد الرقمي سيصبح القاعدة العالمية في التداول، خاصة أن القيمة الإجمالية للاقتصاد الرقمي يتوقع لها أن تصل إلى 23 تريليون دولار بحلول 2025 أي ما يقرب من ربع الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
لكن النمو المتزايد لعالم المدفوعات الرقمية يرافقه كثير من التحديات أيضا، فمن المفارقات التي يشير إليها الخبراء أن انتشار المدفوعات الرقمية في كل مكان قد أدى إلى إيجاد مناخ من "التفتت" داخل النظام الكلي للمدفوعات الرقمية ذاتها، بحيث باتت فكرة "الدفع الرقمي" في كثير من الأحيان مليئة بالتناقضات بين "الاقتصاد المحلي أو الوطني" والاقتصاد العالمي.
فهذا النمط من المدفوعات يوفر مجموعة كبيرة من خيارات الدفع بالنسبة للمستهلكين، ولكنه يصنع أيضا تحديات للشركات، وقد قام عديد من الحكومات في جميع أنحاء العالم بإنشاء شبكات دفع محلية خاصة بها، وهذا يوجه ضربة لبعض جوانب فكرة المدفوعات الرقمية ذاتها، إذ يعوق المعاملات عبر الحدود، وذلك على الرغم من أن الهدف الأساسي للمدفوعات الرقمية هو تسهيل المدفوعات عبر النظام الاقتصادي العالمي.
من جهته، تقول لـ"الاقتصادية" نعومي كارب، الخبيرة المصرفية، "بدأ عديد من الدول في أوروبا وأمريكا اللاتينية وبالطبع بلدان جنوب شرق آسيا بناء شبكة دفع محلية خاصة بها، وبذلك يكونون قادرين على اكتساب مزيد من السيطرة على اقتصاداتهم، ولكن هذا يعني أيضا تقسيم عالم المدفوعات إلى لاعبين منعزلين لا حصر لهم".
وفي الواقع، فإن شركات مثل "رو- باي" الهندية و"إف بي إكس" الماليزية و"إم آي آر" الروسية نماذج من بين عشرات الشبكات لما يعرف بشبكات "التبديل الوطنية"، التي تعد غرف مقاصة تعالج المعاملات بين مزودي الدفع، التي تدير تدفق الأموال في الاقتصاد الرقمي المحلي، وتعمل تلك الشركات على تسهيل وتمكين الملايين من المستهلكين على التعامل مع المدفوعات الرقمية، لكن تلك الشركات لا ترتبط ببعضها بعضا بسلاسل تمكنها من إجراء المعاملات المالية العابرة للحدود.
هذا المشهد التنظيمي المجزأ أو المفتت يعد أحد التحديات الرئيسة، التي تواجه قطاع المدفوعات الرقمية، ويزداد الأمر تعقيدا نتيجة اختلاف إجراءات الترخيص بشكل كبير عبر الأسواق، دون وجود قدر كاف من التنسيق، وهذا ينعكس سلبا إلى حد ما على المستهلك والشركات في آن واحد، إذ إن اختلاف الأطر التنظيمية المحلية يؤدي إلى زيادة التكاليف وإطالة مقدار الوقت المطلوب للشركات الجديدة للدخول إلى السوق، والبدء في طرح منتجاتها، كما أن التعقيدات البيروقراطية تضعف من تكافؤ الفرص بين الشركات الموجودة في السوق والوافدين الجدد.
إلا أن تلك الملاحظات لم تحول دون توسع عالم المدفوعات الرقمية، وذلك وفقا للمؤشر العالمي للشمول المالي الصادر عن البنك الدولي العام الماضي، الذي يكشف بوضوح أن جائحة كورونا دفعت إلى زيادة كبيرة في المدفوعات الرقمية وسط التوسع العالمي في الخدمات المالية الرسمية، بحيث أوجد هذا التوسع فرصا اقتصادية جديدة، وبات 75 في المائة من البالغين حول العالم يمتلكون الآن حسابا مصرفيا أو حسابا للأموال عبر الهاتف المحمول، كما أن الفجوة بين الجنسين في ملكية الحسابات تتقلص.
الدكتور أندرسون كروكول، أستاذ الاقتصاد الحديث في جامعة "كامبريدج" يعلق لـ"لاقتصادية" قائلا: "أحدث وباء كورونا تحولا هائلا في المدفوعات الرقمية، وهو تحول من غير المرجح أن يتلاشى حتى عندما يشعر عدد متزايد من الناس بالراحة للقيام بمزيد من عمليات التسوق بأنفسهم في الأسواق، وفي الواقع فإن الانتقال إلى طرق دفع رقمية كان يحدث وبقوة قبل ظهور الوباء، ولكن مع إغلاق المتاجر وإجبار المستهلكين على شراء كل شيء تقريبا عبر الإنترنت، زادت طرق الدفع دون تلامس بشكل كبير".
ويضيف "الوباء جعل المستهلكين يبحثون بشكل متزايد عن سبل دفع أقل شخصية وهذا ما تحققه المدفوعات الرقمية".
ويلاحظ أن جائحة كورونا أدت لزيادة استخدام المدفوعات الرقمية في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل باستثناء الصين، فأكثر من 40 في المائة من البالغين الذين أجروا مدفوعات رقمية قاموا بذلك لأول مرة خلال فترة وباء كورونا، وفي الهند كان الوباء سببا في أن يقوم أكثر من 80 مليون بالغ باستخدام أنظمة الدفع الرقمية لأول مرة، بينما بلغ هذا العدد أكثر من 100 مليون في الصين.
الإقرار بالقوة المتزايدة للمدفوعات الرقمية لا ينفي بأن بعض اتجاهاتها المستقبلية لا تزال محل جدل بين الاقتصاديين من حيث تأثيراتها الإيجابية والسلبية على الاقتصاد الوطني والعالمي في آن.
فنظام البيع "اشتر الآن وادفع لاحقا"، بات واحدا من أكثر طرق الدفع الرقمي نجاحا في العالم الآن، وفي المملكة المتحدة التي تمثل ثالث أكبر اقتصاد يتعامل بالمدفوعات الرقمية بعد الولايات المتحدة والصين، فإن هذا النمط من المدفوعات، الذي مثل 6 في المائة من جميع معاملات التجارة الالكترونية 2021، من المتوقع أن ينمو 50.5 في المائة هذا العام، وذلك وفقا لاستطلاع لشركة بي إن بي إل للأبحاث والتسوق.
لكن انتعاش هذا الاتجاه من المدفوعات الرقمية يثير نقاشا وجدلا بين الخبراء حول جدواه الاقتصادية.
يوضح لـ"الاقتصادية" إيان براون أستاذ مبادئ علم الاقتصاد في جامعة لندن تفاصيل هذا الجدل أن "أنصار هذا النمط من المدفوعات الرقمية يشيرون إلى الأمان الذي توفره القروض دون فوائد، حيث يعد هذا النوع من المبيعات الرقمية شكلا من أشكال الإقراض دون فوائد، ومن ثم يكون مفيدا في أوقات عدم اليقين الاقتصادي، إذ يشجع المستهلكين على مواصلة عملية الشراء، ما يؤدي إلى مواصلة العجلة الاقتصادية الدوران، وهذا أمر مهم للغاية، خاصة عندما يطبق نظام "اشتر الآن وادفع لاحقا" على عمليات الشراء كبيرة الحجم وذات القيمة المرتفعة".
لكن تلك الفوائد تواجه تحذيرات من الإغراء، الذي يمثله هذا النمط الشرائي، حيث إنه يعزز التوجهات الاستهلاكية دون دراسة حقيقية للقدرة المستقبلية على الدفع، وقد يصبح مصدرا لاستنزاف جزء من العملات الأجنبية للاقتصاد الوطني، إذا كانت عمليات الشراء تتم من الأسواق الدولية بالعملات الأجنبية.
هذا الجدل لا ينفي أن المستقبل سيشهد زيادة اعتماد تقنيات الدفع الإلكتروني من قبل العملاء والشركات، بما يعنيه ذلك من نمو منتجات جديدة، وسيتجاوز الأمر عملية البيع والشراء ليشمل توفير خدمات بنوعيات مستحدثة، بما يؤدي إلى حجم أكبر من المعاملات.
لكن هذا كله سيظل مرتبطا إلى حد كبير بتنامي درجة الأمان في الشبكة العنكبوتية، وقدرة الأجهزة المعنية على حماية المتعاملين عبر الإنترنت، والتصدي الفعال والحاسم للجريمة الإلكترونية، إذ دون ذلك يمكن أن تشهد المدفوعات الرقمية والاقتصاد الرقمي تباطؤا في النمو على الرغم من الحاجة الماسة إليه، سواء من قبل المستهلكين أو المنتجين.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من تقارير و تحليلات