تقارير و تحليلات

«المركزي الأوروبي» يسير على حبل مشدود .. مكافحة التضخم أو إشعال أزمة ديون

«المركزي الأوروبي» يسير على حبل مشدود .. مكافحة التضخم أو إشعال أزمة ديون

للمرة الأولى من نحو 20 عاما يتم تبادل اليورو والدولار الأمريكي بمعدل 1 إلى 1 تقريبا، تماما كما كان الأمر عليه عندما ظهر اليورو للعلن أول مرة باعتباره العملة الأوروبية الموحدة.
ويصبح التساؤل، ما المشكلة في هذا، فهذا المعتاد عندما تتداول العملات وفقا لقوى السوق، أي العرض والطلب؟ ما خطورته وما أهميته؟ هل سيستمر طويلا؟ هل سيشهد اليورو مزيدا من الانزلاق إلى الأسفل، أم سيستعيد قوته ويصعد إلى أعلى مجددا؟
في الواقع، كان اليورو يفقد قوته مقابل الدولار منذ بداية العام، عندما كان يحوم حول 1.13 دولار، فالحملة القوية لمكافحة التضخم من قبل مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، والاضطرابات العالمية الناجمة عن الحر، عززت من قوة الدولار، ولا شك أن ذلك خبرا سارا للأمريكيين وللاقتصادات التي تتوافر لديها احتياطات ضخمة من الدولار، لكن تراجع اليورو يشير أيضا إلى تباطؤ في وتيرة التجارة العالمية، ما يزيد من مخاوف الركود، وربما يؤدي أيضا إلى ارتفاع الأسعار.
لكن ما الذي يجعل اليورو ينخفض أمام الدولار؟ لا شك أن الصراع الروسي - الأوكراني وآثاره السلبية على إمدادات الغذاء العالمي، وارتفاع أسعار الطاقة في جميع أنحاء العالم، أثر في الاتحاد الأوروبي عامة ومنطقة اليورو خصوصا، نظرا إلى اعتماد عديد من دول اليورو وأبرزها ألمانيا على الغاز والنفط الروسي.
وعلى الرغم من مساعي 27 دولة أوروبية إلى خفض اعتمادها على النفط الروسي، فإن ارتفاع أسعار الوقود في وقت يضرب فيه وباء كورونا مجددا عديدا من الاقتصادات الأوروبية، أربك المشهد الاقتصادي ووضع اليورو في موضع لا يحسد عليه.
تضعضع وضعية اليورو ترافقت مع ظروف اقتصادية أكثر ملاءمة للدولار، فرفع أسعار الفائدة من قبل الاحتياطي الفيدرالي ثلاث مرات منذ بداية العام، وتأكيد محافظ الاحتياطي الفيدرالي أن لديه أربع زيادات أخرى مخطط لها كجزء من استراتيجيته للسيطرة على التضخم، ودفع عائدات سندات الخزانة إلى أعلى، جعل الدولار أكثر جاذبية للمستثمرين من اليورو.
مع هذا يتوقع الدكتور ارون بيرون أستاذ الاقتصاد الدولي في جامعة كامبريدج، أن تستجيب البنوك المركزية وصانعو السياسات في القارة الأوروبية لمخاوف انخفاض قيمة اليورو، خاصة أن أغلب التوقعات أن يستمر الضغط على العملة الموحدة في المستقبل المنظور.
وقال لـ"الاقتصادية"، إن "تراجع اليورو يمكن فهمه على أنه علامة على تباطؤ النمو الاقتصادي الأوروبي، ومن الواضح أن منطقة اليورو تتجه إلى الركود، حتى مع تشديد الأوضاع المالية في الولايات المتحدة واليابان".
وبالفعل، فالنمو الاقتصادي في منطقة اليورو في يونيو الماضي تدهور بحدة إلى أدنى مستوى له في 16 شهرا، إذ تقلص الإنتاج الصناعي للمرة الأولى منذ عامين وتباطأ نمو قطاع الخدمات بشكل كبير، وتوقعت المفوضية الأوروبية انخفاض النمو الاقتصادي في منطقة اليورو هذا العام والعام المقبل.
وبعد أن كانت التوقعات الخاصة بهذا العام تبلغ 4 في المائة باتت الآن عند حدود 2.7 في المائة و2.3 في العام المقبل، مع زيادة التضخم إلى مستويات قياسية في الـ19 دولة التي تشترك في اليورو.
كما أن البنك المركزي الأوروبي كان يطمح في معدل تضخم 2 في المائة، لكنه غير توقعاته لتصل إلى 6.1 في المائة، ولا شك أن هذا المعدل سيرتفع كثيرا إذا ما قطعت روسيا إمدادات الغاز للقارة الأوروبية.
بدورها، ذكرت لـ"الاقتصادية" أشلي سيمون الباحثة في الشأن الأوروبي، "جزء كبير من قضية التضخم في منطقة اليورو تحديدا يعود إلى الابتعاد عن برامج التحفيز المالي التي سادت خلال ذروة جائحة كورونا، وعلى الرغم من المخاوف من اندلاع الانكماش الاقتصادي، فإنه من الواضح أن الأوروبيين قرروا السير على النهج الأمريكي ذاته، إذ من المتوقع أن يرفع البنك المركزي الأوروبي أسعار الفائدة لأول مرة منذ 11 عاما في 21 يوليو الحالي".
وأضافت سيمون، "لكن المشكلة أن هذا القرار قد يحل جزءا من المشكلة المتعلقة بالتضخم، لكنه ربما يكون مسؤولا عن انفجار قضية أكثر خطورة، إذ تتزايد حاليا المخاوف من أن الزيادات الكبيرة لأسعار الفائدة لدى المركزي الأوروبي قد تؤدي إلى إعادة إشعال أزمة ديون أخرى في منطقة اليورو".
وبالفعل، تزداد مخاطر تلك القضية مع توقع أغلب الخبراء أن تنزلق منطقة اليورو إلى الركود أسرع من منافسيها، وبحلول الربع الثالث من هذا العام يمكن أن يتراجع النمو الاقتصادي في المنطقة إلى 1.7 في المائة، كما أن الارتفاع الحاد في عوائد السندات يزيد من مخاطر الركود، ويزداد ملف قضية الديون تعقيدا اذ اخذنا في الحسبان أن منطقة اليورو كانت تدعم البلدان المثقلة بالديون مثل اليونان وإيطاليا.
وارتفعت عائدات ديون بلدان منطقة اليورو بحدة، ما رفع تكلفة الإقراض كثيرا، ويمثل ذلك ضغطا على الموارد المالية حتى لبلد مثل ألمانيا التي تمثل حجر الزاوية للتصدي لأي اضطراب مالي في المنطقة.
بدوره، يرى الخبير المصرفي فيليب ترافير، أن إجراءات البنك المركزي الأوروبي لمكافحة التضخم كانت خجولة ومتأخرة كل تلك الفترة خوفا من إثارة أزمة الديون في منطقة اليورو، خاصة أن تجربة منطقة اليورو مع أزمة الديون السيادية بين 2009 إلى 2012 كادت أن تمزق الاتحاد النقدي وتدفع بعض الدول مثل اليونان وقبرص والبرتغال وأيرلندا للخروج من اليورو.
وذكر لـ"الاقتصادية"، أن "المصرفيين في المركزي الأوروبي وصانعي السياسة يميلون إلى تقديم صورة مطمئنة لوضع مخاطر الديون السيادية في أوروبا في الوقت الحاضر، ومع ذلك لا تزال هناك تحديات كبيرة، فالمالية العامة اليوم في حالة أسوأ مما كانت عليه في ذروة الديون السيادية السابقة".
وأضاف "مثلا، بالنسبة إلى اليونان كانت نسبة الدين الحكومي اليوناني إلى الناتج المحلي الإجمالي 127 في المائة، وفي عام 2020 بلغت 211 في المائة، وبعد جائحة كورونا ارتفعت بالنسبة إلى إسبانيا وإيطاليا إلى 120 و155 في المائة على التوالي، كما أن دول منطقة اليورو عليها جبال من الديون، فإيطاليا - على سبيل المثال - عليها 2.88 تريليون يورو، وعلينا أن نتذكر أن الأزمة اليونانية التي أدت إلى انهيار اقتصاد البلاد، وأثارت الذعر في منطقة اليورو، كانت ديون اليونان حينها 300 مليار يورو فقط".
من المؤكد أن احتياجات التمويل الحكومي في منطقة اليورو ستزداد في الأشهر أو الأعوام المقبلة، وإذا ما أخذنا في الحسبان أن تداعيات أزمة كورونا لا تزال قائمة، وهناك موجة جديدة من الوباء تضرب بعض الدول ما يترك بصمات على الاقتصادات والمالية العامة، كما أن المخاطر الجيوسياسية مستمرة، خاصة مع التهديدات الروسية بعد أشهر من الحرب الطاحنة في أوكرانيا بأن الحرب لم تبدأ بعد.
كما أن مواصلة أوروبا فرض عقوبات على روسيا جاء بتكلفة اقتصادية مرتفعة للغاية على الأوروبيين وسط مشكلات مستعصية فيما يتعلق بالطاقة وقضايا اللاجئين، يضاف إلى ذلك الطموحات المناخية النبيلة للأوروبيين المكلفة للغاية وتفوق في كثير من الأحيان قدرتهم المالية، هذا يعني أن على أوروبا أن تنفق المزيد والمزيد من الأموال عبر التمويل ومزيد من القروض في الفترة المقبلة.
وسط هذا الوضع المقلق يزداد التوتر من قضية الديون الأوروبية، حيث يتجه البنك المركزي الأوروبي إلى التوقف عن شراء جميع الديون الجديدة الصادرة عن حكومات منطقة اليورو، ويصبح التساؤل ماذا سيحدث إذا توقف البنك المركزي الأوروبي عن كونه مشتر رئيس لسندات الحكومة الإيطالية المثقلة بالديون - على سبيل المثال؟
باختصار، في الأشهر المقبلة سيتعين على البنك المركزي الأوروبي السير على حبل مشدود على ارتفاع هائل، فعليه الاستمرار في دعم أسواق السندات من خلال سياسة التيسير الكمي، لأن الحكومات الأوروبية بحاجة إلى قروض لبرامجها الحكومية، وعليه في الوقت ذاته الانسحاب تدريجيا من التسهيلات النقدية للتصدي للتضخم الذي يؤدي إلى تراجع مستوى معيشة الأوروبيين، ولا طريق آخر سوى تشديد سياسات التيسير الكمي، موقفان صارخا التناقض، وبصرف النظر عن كيفية التعامل الأوروبي مع تلك المعضلة، فإن غياب الحكمة في أي خطوة يخطوها البنك المركزي الأوروبي بهذا الشأن يعني عودة منطقة اليورو ومعها الاتحاد الأوروبي إلى أزمة ديون عام 2009.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من تقارير و تحليلات