أندلسي يدعو إلى قياس الخدم على الرقيق

سألني أندلسي عائد عبر الزمن عن أسعار الرقيق هذه الأيام في سوق النخاسة عندنا لحاجته إلى تكفير بعتق رقبة عن ذنب اقترفه. قلت له إن الزمن قد تجاوز عصر الرقيق والإماء الحقيقي الذي عهدت في الأندلس إلى صور غير منضبطة من الرق الاعتباري هنا وهناك في الغرب والشرق.
استنكر الأندلسي هذه المقولة وقال: أين تذهب إذن أحكام الرق والرقيق وما فيها من عبادات ومعاملات لها آثارها العظيمة ومتعلقاتها الدينية والدنيوية؟ وماذا نفعل بالكفارات؟ وأين تذهب هويتنا الإسلامية إذا اتبعنا الغرب في كل صرعة يأتي بها؟ وكما تعلم فمفهوم الرق في الإسلام ليس كمفهوم الرق عند هذه الأمم.
وماذا عن هؤلاء الذين في بيوتكم الذين اعتقدت في رحلتي عبر الزمن أنهم هم الرقيق عندكم لما رأيته من رقة حالهم وسكناهم وأكلهم وإيوائهم في بيوتكم وبيعهم بعضكم لبعض بربح وخسارة، وأبق بعضهم هروبا أو عصيانا. فلم لا نقيس الخدم على الرقيق بجامع الخدمة، فهي وصف مناسب للعلة؟! واعتمادا على ما ذكرت من أوصاف سابقة لخدمكم الذين في بيوتكم تبين أنه أيضا وصف ظاهر ومنضبط للرقيق عندنا في الأندلس فتكاملت بحمد الله شروط العلة وشواهدها. والعرف يشهد لصحة هذا القياس لاعتباركم قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم" في الحاصل الآن عندكم في بيوتكم. ولا يخفى عليك ما في ذلك من الأخذ بالأحوط وما فيه من سد الذرائع وما في ذلك من تحقيق مصالح عظيمة من استمرار الرق وأحكامه وما فيه من دفع لمضار عظيمة حاصلة بوجود خدم في بيوتنا كالرقيق ولا أحكام الرقيق.
ولكننا سنحتاج إلى بعض المسميات لتتلاءم مع أحكام الرق الجديد ولنسميه "الترقق الإسلامي". فإذا أردنا التكفير بالعتق أعطينا الخادم راتب ستين سنة وهي تقارب قيمة الرقيق عندنا في الأندلس ولنسميه "العتق المدفوع المستقصر". ودليل صحة هذه المعاملة قول أسماء بنت أبي بكر " فكأنه أعتقني" عندما أرسل لها أباها ـ رضي الله عنه ـ من يكفيها سياسة فرس الزبير. وأما دليل الستين عاما فقوله عليه السلام: أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين، والحمد الله فقد تم التأصيل بالدليل. كما لا يخفى عليك ما في هذا القياس من براءة للذمة من إحضار للنساء في بلاد غريبة واختلاطهن المحرم بالرجال من غير رفقة آمنة أو محرم والذي قد انتشر وعم دون نكران ولا استغراب مما يدعم مقالتي أن العرف قد استقر بأن يعامل الخدم كالرقيق. وفيه توسعة على الناس فمن أراد التسري فهو خير على خير وما عليه إلا أن يُشهد أصما أبكما. ولكن بشرط كونها على كفالته ولنسميه "التسري المستخفي المستنوي". فإن لم يكن كفيلها فيجب عليه أخذ إذن كفيلها ونسميه حينئذ "التسري المستنوي بالإذن". فإن لم يأخذ الإذن فهو حيلة على الزنا كما قد يفعله بعضهم والعياذ بالله.
قلت للأندلسي أخطأت في التأصيل فضللت الطريق فأتيت بالعجيب. استدللت بالعموم على الخصوص وبالمصالح المرسلة على الأدلة المحكمة واشتغلت بالتأصيل والتنظير بعد أن وضعت الحكم والنتيجة.
يا حبيبي شكر الله لك وبيض الله وجهك وحرّمك على النار. الرقيق في جوهره رقيق وإن أبق فرارا أو عصيانا، أو حَكَم أصلا أو نيابة، أو مَلك لنفسه أو لغيره، أو خدم أو اُُستخدم له. والخادم عندنا لا يعود خادما إذا انسلخت عنه صفة الخدمة. ويا حبيبي زوال الرق هو في أصله مطلب شرعي تشوف إليه الشرع وحث عليه. والرق كانت له أسبابه التي لم تعد قائمة. والحمد لله فكل ذلك من ظهور آيات علم الله لغيب الأولين والآخرين.
قال الأندلسي: سبحان القاهر فوق عباده كيف يظهر تناقض أفهام عباده ليظهر عجز المخلوق وقدرة الخالق. ثم قال: يا متناقض التفكير قد مررت في رحلتي عبر الزمن بمكان يقال له نيويورك. رأيتهم هناك في بلاد الفرنجة البعيدة يطبعون أوراقا وأرقاما لا حد لها ويعطونها للناس فيجعلونها قيماً لممتلكاتهم ويجعلونها سلعا يتاجرون بها ويجعلونها في صور سلعية متنوعة يبيعونها ويشترونها فسألتهم ما هذه الأرقام والأوراق قالوا هذه الصورة أو الطريقة الحديثة لتقييم وتثمين الأشياء.
قلت لهم كذبتم وأخطأتم، فالثمن يجب أن يكون ثابت القيمة ومستودعا للثروة ولا يصلح لذلك إلا الذهب لأن الذهب محدود وزيادته سيقابلها زيادة في إنتاج الأشياء الأخرى فتثبت بذلك قيمته عبر الدهور والعصور والأزمنة والأمكنة. وقد رأيتكم أخيرا يا معشر الفرنجة قد طبعتم ما يساوي قيم إنتاج العالم الإسلامي جميعه في عام، وقد تتبعت تاريخكم فوجدت هذا دأبكم منذ نصف قرن فأصبح الغلاء أصلا في القيم وليس طارئا. والذهب عندنا في الأندلس وعبر رحلتي الزمنية لم تتغير قوته الشرائية قط إلا ويرجع إليها. وكذلك هو دأب قيم كل السلع بما فيها المهور والرقيق. فهي وإن تغيرت مؤقتا لنقص أو زيادة أو غنى أو فقر فسترجع إلى ما كانت عليه. وأما ما تطبعونه من أوراق وأرقام فمساره هابط أصلا لا طارئا. وقد رأيت خلال الـ 40 سنة الماضية ازدهار تجارتكم في هذه الأوراق حتى بلغت أرقاما فلكية تتجاوز قيمها في عام واحد قيم إنتاج العالم أجمع لـ 20 عاما، فهذا أكبر شاهد وأظهر دليل على أنها غير منضبطة وإلا لما أصبحت موضعا للتجارة.
قال الفرنجة: نحن في الواقع جعلنا هذه الأوراق والأرقام ثمنا اعتبارا لا حقيقة ولم ننكر ذلك قط بل ورتبنا أمورنا على ذلك، ولكن من أنت وما هذه الهيئة التي أنت عليها؟. قلت لهم: وأنا شامخ الرأس عزيز الجناب، أنا مسلم من أرض أندلس. قالوا قد فهمنا سبب العجب وأدركنا موضع الوجع، قد تغير الزمان بعدك يا أخا الأندلس وانفصل ملاك الثروة عن القادرين عن الإنتاج منذ الثورة الصناعية وأصبحت الأموال الفردية تعجز عن تمويل المشاريع العملاقة، واحتكر أبناء عمومتكم من اليهود المال فضنوا به فهدانا الرب إلى هذه الطريقة فانتزعنا الأموال من مكتنزيها انتزاعا بطباعة هذه الأوراق وأصبحت قيمتها تتآكل وتتلاشى فأجبرناهم دون عنف ولا قوة على المشاركة بأموالهم في بناء أوطناهم. وانظر يا أندلسي إلى متوسط معدل العائد على السندات في ثلاثين عاما فستجده هو معدل التضخم نفسه، أي مقدار تناقص قيمة هذه الأوراق، فنحن الفرنجة لا نظلم قومنا ولا نسمح لهم بظلمنا فيأخذوا أكثر من قيمة أموالهم الحقيقية وهم لم يشاركوا في مخاطر التجارة . ثم قالوا لي: يا أندلسي دعنا وشأننا فنحن نعرف كيف ندبر أمورنا لأننا ننظر إليها بمنظار دقيق يضع الأمور مواضعها ويتعامل معها بواقعية لا مكان فيها للعواطف، ولكن اذهب فابكي قومك يا أندلسي. فهم من جعلوا من هذه الأوراق والأرقام غير المحدودة ثمنا وجعلوها بدلا للذهب فظلموا أغنياءهم بإلزامهم إعطاء أموالهم لمن يرجعها ناقصة القيمة، وظلموا فقراءهم بأن منعوهم من الحصول على الأموال ليستثمروها، وظلموا مجتمعاتهم بتفسيقهم وتضليلهم، وحكروا مشاريعهم في يد القليل منهم فعطلوا اقتصاداتهم وتفشى الفقر فيهم، ثم، ويا للعجب، قد ارتدوا على أدبارهم فأرهقوا الناس بقروض استهلاكية أسموها بأسماء غريبة وشكروا مُنظريها، بينما نسميها نحن الفرنجة، ربا لظهور ظلمها ونعاقب فاعليها لاستغلالهم فقراءنا.
واعلم يا أندلسي أن أغنياء قومك قد أرسلوا إلينا فوائض أموالهم نستثمرها لهم ببناء أوطاننا بدلا من أوطانهم بعد أن فسقتموهم وظلمتموهم، بينما تسلى فقراؤكم وعوامكم بأساطير وأوهام تتحدث عن مآسي اقتصاداتنا.
ثم تساءل الإفرنجي متعجبا: أصحيحٌ أن ربكم أمركم بهذا يا أندلسي؟
قال لي الأندلسي: فانطلقت شرقا ولهان حيران فوطئت شخصا خطأ فقتلته فأذهلني هم عتق رقبة عن هم مقالة الفرنجة. ووجدت نفسي ببابك ووجدتك تدعي زوال الرق وتزعم أن ذلك من آيات علم الله، ثم لا ترى آيات الله في حكمة تشريعه في تكييفه للأثمان والذهب بما يتلاءم مع عصر ما قبل الثورة الصناعية وما بعدها من المتغيرات الاقتصادية. ثم تتطاول وتُخطئ قياس الخدم على الرقيق، وهو وإن لم يكن فيه قياس المعنى ففيه قياس الشبه وفيه تحقيق لمقاصد الشرع ثم تحاجني بأن الرق جوهر والخدمة عارض طارئ، وأن مقاصد الشريعة تتحقق في العتق لا في الرق ثم تعود وتقيس الأرقام والأوراق على الذهب بجامع الثمن والثمن طارئ عليها، بينما ثمنية الذهب جوهر فيه وإن لم يكن ثمنا كتبر أو مصهور. ثم تزعم أن هذا متفق مع مقاصد الشريعة فجعلت لزوم إيجاد الربا والتضييق على المسلمين وتفسيقهم مقصدا من مقاصد الشريعة، وسخرت من تحايلي في أحكام الرق ولم تسخر من تحايلك على أحكام المعاملات، وفوق هذا كله فقياسي الخدم على الرقيق هو من باب التسهيل وهو مطلوب في الشرع، بينما قياسك الورق والأرقام على الذهب هو من باب التعسير والتضييق وهو مكروه للشارع.
قلت هوّن عليك يا أندلسي فقد نكأت جرحا عميقا قد التأم على أورام وأوساخ وبدأ سمه يستشري في جسد الأمة. وسأخبرك بمنهج علمي مؤصل على الكتاب والسنة ومقعد على أصول الفقه كيف أخطأنا في التأصيل. وسأخبرك بالأقوال والنقولات التي بررت أسباب أصل الخطأ وهو وضع حتمية النتيجة قبل النظر في مسبباتها وسأخبرك بالسياسات الشرعية والأوضاع والمعطيات التي كانت قائمة والتي جعلت الخطأ يغلب الصواب ويصبح حقا لا يجادل فيه. وكل وقفة مما سبق تحتاج إلى تفصيل، ومثلك يا أندلسي قد حقق مبدأ "التخلية قبل التحلية" فسيسهل فهمك للمسألة، فقد خلا ذهنك من تصورات أحكام مسبقة هي في واقعها جدار مانع للفهم. وقم بنا الآن للصلاة فقد أقام المؤذن وفاتت علينا تكبيرة الإحرام .

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي