السعر الحالي استنزاف للمنتجات النفطية.. وتلوث أيضا

الأسعار الحالية للمنتجات البترولية في السوق المحلية تعد استنزافا للمنتجات النفطية وقد يستغلها البعض استغلالا سيئا ودون فائدة ترجى بل زيادة الآثار السلبية. ولذلك فإنه لا بد من التفكير في زيادة أسعار البنزين (الجازولين) للمعدل الذي يخفض من الاستعمال والاستغلال السيئ لمكرمة خادم الحرمين الشريفين حيث إن تخفيض أسعار الوقود له سلبياته الخطيرة على المجتمع والمدن.
وتشير الأبحاث إلى أن هناك دائماَ علاقة وتناسبا عكسيا بين انخفاض أسعار البنزين وزيادة الازدحامات والاختناقات المرورية والحوادث والوفيات والتلوث. فكلما خفضنا سعر البنزين زادت الرحلات وسببت الاختناقات المرورية وكثر الوفيات والتلوث البيئي.
وفي آخر دراسة للمعهد الطبي في جامعة هارفارد الأمريكية نشر أمس أوضحت أنه بين عامي 1985 و2006م كانت كل زيادة في أسعار البنزين بقدر 10 في المائة تقلل من عدد الوفيات في الطرق بنسبة 3.2 في المائة. وكل 20 في المائة تقلل 6.5 في المائة. وأن نسبة الوفيات بسبب قيادة المراهقين أكبر منها وتصل إلى 6 في المائة يسببها رخص أسعار البنزين ما يشجع المراهقين على القيادة والتهور. وبأرقام فإن معدل انخفاض الوفيات يصل إلى 12 ألف سنوياَ (مع ملاحظة أن عدد السكان أكبر).
كما تشير كثير من الدراسات إلى أن هناك علاقة قوية بين أسعار البنزين ومشكلات الاختناقات المرورية. ففي دراسة أخرى لمعظم المدن الأمريكية وجد أن ارتفاع أسعار البنزين خفض الاختناقات المرورية في أكثر من 96 في المائة من جميع المدن الأمريكية ولوحظ خلالها انخفاض الوفيات والتلوث. وفي بحث ميداني آخر لمجموعة من المواطنين الأمريكيين عند سؤالهم عن مدى تأثير رفع أسعار البنزين كانت إجابات أكثر من 72 في المائة منهم أنهم أصبحوا ينهون أكثر من غرض أو حاجة في مشوار واحد ويخططون لمسار الرحلة بحيث يقودون مسافات أقل ويوفرون البنزين. كما أن 70 في المائة بدأوا في تخفيض عدد رحلاتهم ومشاويرهم وتكون رحلاتهم فقط للمشاوير الضرورية فقط وليس التسكع.
وفي كل الأحوال فإن رفع أسعار البنزين في معظم الدول ممكن إذا وفرت الدول بدائل للنقل العام مثل الحافلات والقطارات الخفيفة والثقيلة. وقد يكون هذا هو السبب الذي جعل الدولة تخفض أسعار البنزين وتتقبل تلك السلبيات. ولكنها الآن بدأت التفكير في برامج النقل العام ما سيجعلها أكثر قدرة على الرفع التدريجي للأسعار.
لقد كان للمكرمة الملكية بتخفيض أسعار الوقود وقعها وأثرها الطيب في الكثير من شرائح المجتمع. وهي مكرمة جاءت بنية مخلصة لمواطن يقدر تلك المكرمة. وقد كان المقصود بها ضمنياَ مساعدة شريحة المجتمع التي تعاني غلاء المواصلات والنقل وهم المحتاجون لها أكثر من غيرهم وبحيث تساعدهم على مشاويرهم للعمل والمعيشة. وليس فقط للبهرجة والإسراف والاستعراض بكثرة السيارات والسائقين وتدليل المراهقين. ولكن وكالعادة تضع الدولة تسهيلات لفئات من المجتمع ولكن كثيرا ممن ليسوا في حاجة لها هم أكثر من يستغلها أو يسيء لفكرة أو هدف المكرمة. وأكبر مثال على ذلك هو مكرمة صندوق التنمية العقارية التي أريد بها حل أزمة الإسكان وتوفير سكن للمحتاجين لها. ولكن أكثر من استغلها هم الأغنياء أو المقتدرون من غير المحتاجين والذين يملكون أكثر من مسكن. وهم المستغلين السيئين لمكرمة تخفيض أسعار الوقود أنفسهم وذلك بشراء أكثر من سيارة لهم ولأبنائهم وفوق احتياجهم. سواء أغنياء أو حتى بعض الفقراء الذين لا يجدون مسكنا أو معيشة ومع ذلك يتنافسون في شراء السيارات لأبنائهم المراهقين ليضايقوا غيرهم من إخوانهم المسلمين وكأننا في حرب ضدهم وعوائلهم. وكل التصرفات والسلوكيات من هؤلاء المستغلين لفرص غيرهم لها سلبياتها وآثارها السيئة في المجتمع والمدينة. وهم أكثر من يعيثون في الأرض فساداَ ويقتلون الأبرياء ويضايقون محارمنا ويعبثون بالسرعة والتفحيط والدوران المزعج للناس ومزاحمة الناس في الطرقات والقيادة المتهورة والسرعة المتناهية والتي بغير هدف وإنما ليصل إلى الشلة في الاستراحة.
والآن نواجه مشكلات الاختناقات المرورية ونحاول أن نجد لها الحلول. وتخطط الدولة لصرف ميزانية ومبالغ ضخمة لحل تلك الازدحامات داخل المدن. أو ستلجأ إلى مشاريع للأنفاق والجسور وقطارات خفيفة وقد تكون تحت الأرض مثل مترو الأنفاق. وهو تفكير سليم وتخطيط جيد لإيجاد حلول مسبقة للمشكلة. ولكنها حلول كما سبقنا غيرنا لها تحل من مشكلات النقل العام ومدى تقبل المجتمع السعودي لها. وقد تحتاج إلى برامج توعية كبيرة ومشجعة لهم لاستعمال النقل العام وإقناعهم أنهم بشر مثلهم مثل جميع المجتمعات الأخرى. ولكن في ظل وجود سياسة تخفيض أسعار الوقود فإن هذه المشاريع لن تنجح.
تخفيض أسعار الوقود ودون ضوابط هو أحد أكبر الأسباب التي سببت الاختناقات المرورية والازدحامات التي نعانيها حالياَ في المدن الكبرى وخاصة العاصمة الرياض. وليس ذلك فقط بل تضاعفت معدلات التلوث البيئي وكثرت الحوادث والوفيات. كما أن تخفيض أسعار الوقود هو من المسلمات المعروفة عالمياَ بأنها أكبر أسباب الاعتماد على السيارات الخاصة وسهولة أو رخص قيادتها كبديل عن النقل العام. وكلما خفضنا أسعار الوقود كلما كثر الطلب على استعمال السيارات الخاصة واستسهلها الكبار والصغار والمحتاجين للتنقل أو غير المحتاجين أو من ليس لهم عمل بل التجول دون هدف في الشوارع. وهذا بالطبع يزيد من عدد السيارات في الطرق سواء العامة أو داخل الأحياء أو على الطرق السريعة في المدن وخارجها ويسبب الازدحامات وتحمل الطرق أكثر من سعتها. إضافة إلى مضاعفاته معدلات التلوث والحوادث كسبب لتلك المشكلات مثله مثل تخفيض أسعار أي خدمة أخرى فإن هناك دائماَ من يكون لديه السلوك والاستعمال السيئ لها أو استعمالها لأكثر من حاجته. وهو مبدأ اقتصادي معروف.
وفي الوقت الذي يعانيه الجميع مشكلات الازدحامات والاختناقات المرورية وآثارها السلبية، نجد أن هذه الشريحة من المواطنين وكأن الأمر لا يعنيهم يستمرون في تلك الممارسات. ويستهينون بمجهودات ولاة الأمر والمسؤولين الذين يحاولون إيجاد حلول لتلك الاختناقات المرورية وكثرة الحوادث والتلوث البيئي. مشاريع مكلفة للدولة منها القطارات الخفيفة للمدن وبين المدن وتوسعة للطرق وطرق سريعة جديدة وإنفاق وجسور. وزيادة الورش ومعارض وصالات بيع السيارات وكثرة العمالة الأجنبية لها. فمن المستفيد من كل هذا السلوكيات السيئة؟! ولعل الإسلام يحرك في هؤلاء المتساهلين هاجسا ولعلهم يؤمنون بما جاء في الكتاب والسنة! فهم المتهم الأول في جرائم قتل الأبرياء عند تقاطعات إشارات المرور. وقتل عوائل كاملة بسبب السرعة وتهور أبنائهم. وأليس ذلك إسرافا وكفرا بالنعمة. والآيات والأحاديث كثيرة ومعروفة وقد لا يتسع هذا المقال لها. كما أن المواطن يجب أن يعي أنه يعيش مع إخوانه المواطنين وأن لهم حقوق وواجبات يجب عليه أن يحترمها. فمن حقه شراء سيارة لابنه ولكن ليس من حقه أن يجعله يقتل الأبرياء أو يضايق محارمهم.
كما أن تخفيض أسعار الوقود له أثره المستقبلي في مخزون الطاقة النفطية التي تملكها الدولة. في وقت تعاني فيه الشائعات بقرب نضوب البترول وأن تكلفة استخراجه وصلت إلى قمة التكلفة، وأن ذلك له أثره ليس فينا فقط بل في العالم كله. ففكرة الضواحي التي تعيشها معظم الدول الكبرى أصبحت مهددة بالانقراض وبدأ الناس يرجعون إلى المدن بسبب ارتفاع أسعار الوقود وعدم قدرتهم على استعمال سيارتهم الخاصة للرجوع إلى الضواحي.
لقد كانت تجربة الولايات المتحدة قبلنا واضحة فهي قبل الركود الاقتصادي عام 1420م كانت لديها وفرة من النفط وكانت أسعار النفط لديها أرخص من سعر المياه وكانت لديهم آبار بترول كبيرة وكثيرة وفي حدائق ومزارع بعض المواطنين. وهذه الوفرة من النفط كانت المحرك الأول لظاهرة بناء الضواحي السكنية وخاصة بعد الحرب العالمية وبعد معرض شيكاغو. وكانت تلك هي مولد ظاهرة الضواحي السكنية التي انتشرت في جميع أنحاء العالم. ولكنها اليوم وبعد شح النفط لديها وارتفاع أسعاره أصبحت تعض أصابع الندم على بناء تلك الضواحي. ويعتقد الكثير من المفكرين ومستشاري الطاقة أنه إذا استمر الارتفاع في أسعار الوقود وصاحبته شائعه نضوبه عالمياَ فإن الأمور ستكون أسوأ مما نتوقع. وستصبح تلك الضواحي مدنا مهجورة.
تخفيض أسعار الوقود يجب أن ينظر إليه بين النظرية والتطبيق وأن تتم دراسته وتسخير بعض البحث العلمي لكيفية تنظيمه والتخفيف من سلبياته. وإلى طريقة علمية وعملية للاستفادة منه. لذلك فإنني أرى أن هذه المكرمة وحتى يكتب لها أن تستمر في تحقيق أهدافها السامية يجب أن توضع لها ضوابط وتنظيمات تحكم طريقة تنفيذها. والضوابط كثيرة منها: إصدار قسائم أو بطاقات لفئات معينة وربطها بالسجل المدني لهم، أو أن يتم تخفيضها مع رفع رسوم أخرى سواء للمرور أو الخدمات الأخرى سواء لوزارة النقل أو البلديات أو شركات الكهرباء، بمعنى أن تكون هناك باقة مشتركة من التخفيضات ولكن بطريقة تحكم التلاعب والإسراف فيها. أو العودة إلى رفع أسعار الوقود مرة أخرى للحد من الإسراف فيها وليحس الجميع بقيمة الريال الذي يصرفونه قبل أن يسرفوا في القيادة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي