أداء كالطلقة

لطالما شغل الأداء الإنتاجي الفردي والجماعي بال كثيرين, كيف يؤدونه وكيف يحسنونه وكيف يقيمونه، فأمسى لدينا عشرات الطرق والوسائل لتحسين الأداء وأصبح هناك عشرات النظريات ومئات الأدوات الخاصة بقياس الأداء وتقييمه، وما هذا إلا دليل على غموض مفهوم الأداء الإنتاجي بصورة عامة.
هناك فريق يرى أن الأداء مبعثه الجهد والمثابرة لذا فهو مرتبط بالنتائج، وعلى ذلك يميل هذا الفريق لطرق كمية، ويهتدي بالنظريات والجداول الإحصائية ويعتمد على القياس والمقارنة وربط الخطط بالمتحقق. وهناك فريق يرى أن الأداء مبعثه الوجدان، لذا فهو مرتبط بالرغبة في التعلم والتغير إلى الأفضل، لذا يعتمد هذا الفريق على تهيئة البيئة المناسبة للارتقاء بالمعرفة والمهارة، وكلا الفريقين يعتمد على وسائل وأساليب ثبت بالتجربة تحقيقها إنجازات تدعم ادعاء كل منهما، وما برح الفريقان في جدال حول كليات وجزئيات مفاهيمهما وكغيري ممن افتتن بدراسة وفهم هذه الظاهرة الإنسانية، التي تسمى "الإحسان في العمل" وجدت نفسي لفترة من الزمن متأرجحاً بين المفهومين، وكنت في كل مرة أنتقل للعمل في مؤسسة جديدة أواجه بمهمة وضع معايير لتحسين وقياس الأداء، وكان ذلك سهلاً من الناحية التنفيذية، فما يلزمني سوى اقتباس نموذج معد سلفاً من قبل مؤسسة أخرى وإجراء بعض التعديلات الطفيفة ثم اعتماده، إلا أن ذلك كان يمثل لي تحديا فكريا، فمهما أجريت من التعديلات، ولو بلغت تحويرا كاملاً لأداة التقييم، إلا أنني أبيت غير مقتنع بجدوى تلك الأداة، ويشكل علي تقبل ذلك، خصوصاً عندما يحين موعد تقييم الأداء وأرى الحيرة في وجوه المشرفين المسؤولين عن تقييم مرؤوسيهم وتتناهى لي جدالات الموظفين حول العدالة في التقييم والظن بالنيات المبيتة.
إن هذا التجاذب الذهني الذي عشته ردحاً من الزمن دفعني إلى القناعة بأن الظواهر الإنسانية من الصعب تنسيقها على نمط، فالعوامل المؤثرة في محصلة التفاعل الإنساني كثيرة ومختلفة الاتجاه والقوة، لذا من الصعب الإلمام بكل تلك العوامل واتجاهاتها وشدة تأثيرها، وأصبحت من المشككين بجدوى أدوات قياس الأداء بالصور السائدة، التي تتمثل في تقييم فردي وبصيغة قضائية، حيث يقوم المشرف بوضع نقاط قياسية لمعايير معدة سلفاً لسلوكيات وسمات الموظفين لا تتناسب مع طبيعة أعمالهم والعوامل المؤثرة في أدائهم بالضرورة، وتؤدي إلى قرارات مؤثرة في حياتهم المهنية.
لذا وبعد بحث جهيد لا مجال هنا لتفصيله، اهتديت لنموذج يصف الأداء بالصورة التي يقرها فكري، وحيث أميل لمذهب النظم في التفكير فقد بات علي اعتماد منهج للأداء متكامل العناصر، فمداخلاته تتمثل في الموارد المسخرة له من قدرات بشرية وأدوات ومواد وأموال ومعايير وقوانين المعالجة والتحوير والتغيير وصفة محددة للمنتجات والتبليغ المستمر عن حال طباق المستهدف بالحاصل. هذا النموذج الذي بات رهين مراجعاتي على مر السنين العشر الماضية، اجتاز شكوكي واختباراتي واقتنعت بجدواه وبات يمثل محور تفكيري حول تحسين الأداء وقياسه، ولزمني أن أعلنه على الأقل بالصيغة المختصرة التي تناسب وضعه في مقال.
أداء كالطلقة، هو تشبيه لما يمكن أن تحققه المؤسسة التي تتبنى هذا النموذج، فهو يصور أداء المؤسسة كطلقة باتجاه هدف، يحثها القدرة والقوة الكامنة في انطلاقها وتخترق القوى الخارجية المواجهة لها لتصل للهدف بالدقة والسرعة المتحققة من تفاعل قدرتها وتحدياتها. هذا النموذج يتمثل في الشكل الموضح ويقوم على عناصر أساسية هي:
تحديد الهدف، وهذا يتحقق بوضع رؤية ورسالة للمؤسسة، فالأداء الإنتاجي موجه بطبيعته، وإن لم يحدد له هدف مكتوب، فالهدف يتبلور في صورة ذهنية تسكن عقول الملاك والمديرين والعاملين، لذا يتفاعل كل منهم بما يستهدفه من طموحات وآمال ويكون هناك بالضرورة قاسم مشترك لتلك الطموحات والآمال، لذا يكون من الأجدى لو أعلن هذا القاسم المشترك وبات هو الهدف المشترك للجميع.
* تحسين المدخلات، هناك تعبير يستخدمه متخصصو الحاسب الآلي للتعبير عن ارتهان صدق وجودة مخرجات المعالجة الحاسوبية بالمدخلات فيقولون "إذا ألقمت الحاسب الآلي قمامة فستحصل عل قمامة مخرجات"، وهذا ينطبق على جميع صيغ المعالجة بما فيها المعالجة البشرية فالأداء البشري بغض النظر عن مدى ضبط تفاعله يظل مرهوناً بجودة المدخلات من مرافق وموارد مادية ومحفزات معنوية.
* البناء الاجتماعي للمكون البشري، بمقدار اختلاف الناس في توجهاتهم وأساليبهم، إلا أنهم بحاجة لمعايير تضبط سلوكياتهم وتقنن تفاعلاتهم - حيث لا يعتدي القوي منهم على الضعيف - وتخلق لديهم شعور بالاطمئنان يرفع عنهم هاجس القلق على مصيرهم، وكمحصلة لذلك يتحقق في أذهانهم صورة للعدالة تبعث في نفوسهم الرضا والحماس على تحسين واقع العمل. وينمو لديهم شعور بالانقيادية للتوجه الذي تختطه المؤسسة والالتزام بمنهجها.
* البناء المنهجي للعمل، ويتمثل ذلك في وضع النظم والقوانين التي تحكم العملية الإنتاجية واستخدام الموارد، بحيث تحقق الحدود المقبولة من حماية العاملين في صحتهم ومعاشهم وحقوق المالكين في رعاية وصيانة ممتلكاتهم وتعظيم العائد النفعي من استخدام الموارد.
* تحسين الكفاءة ويكون ذلك بشحذ همم العاملين على الاكتساب المعرفي وبناء المهارة وتيسير وسائل وظروف التطوير الذاتي، ووضع سياسات وطرق لربط ذلك بالترقية والمكافأة، بحيث يجد العامل الفرصة للتقدم في العمل من خلال الجهد والوعي بدوره في العملية الإنتاجية وتكوين القدرة على النقد الذاتي والمعرفة بسبل تحسين الأداء الذاتي وربط ذلك بالجهود الجماعية لفريق العمل.
* إدارة البيئة المؤسسية. إن العمل ضمن أطر تنظيمية وهيكلية تقسم فيها الأدوار والمهام وتتسلسل فيها التوجيهات يخلق واقعا تعامليا بين العاملين يوظفون فيه قيمهم وسلوكياتهم ومفاهيمهم على نحو يحقق لهم القدر المقبول من الحرية الفردية والتعاون الجماعي في سبيل إنجاز الهدف المشترك وبقدر ما تختلف مشارب العاملين وأهدافهم بقدر ما تمثل تلك البيئة من تحد لكيان المؤسسة وقدرتها على الأداء الأمثل، لذا لا بد أن يتم صرف جهد إداري لبناء بيئة مؤسسية فاعلة في تنمية الأداء ومراقبة ما يطرأ على تلك البيئة من تغيرات.
* تطوير نمط القيادة. في كل مجتمع من الناس لا بد من وجود شخص أو أشخاص تناط بهم القدرة التوجيهية لذلك المجتمع، بحيث تتحقق تطلعات المجتمع إلى معيشة أفضل وحماية أفضل بفضل القدرات الكامنة في ذلك المجتمع، لذا تكون المهارة القيادية في القدرة على التعرف واستخلاص القدرات الفردية والجماعية للمجتمع وتوظيفها بصورة تضافرية لتحقق الهدف المنشود وبعث الحماس والثقة في المجتمع على الالتزام بتلك التوجهات، وبقدر ما يمارس القادة ذلك بتقانة عالية بقدر ما تتحقق الجودة في تحقيق الهدف، لذا لا بد من تولية أمر القيادة وتطورها باهتمام بالغ.
* التنسيق وخلق التوازن. قد يكون من أدق النشاطات المؤسسية تنسيق التوازن بين مكونات العملية الإنتاجية، بحيث يتم توظيف القدر المناسب من الموارد وضبط تناغم تضافرها لتصبح أشبه ما تكون بجوقة من العازفين المنتجين لمقطوعة موسيقية تشنف الآذان، والتحدي في تنسيق التوازن المؤسسي يكمن في عدم وضوحه كمهمة منفردة، فهو نتاج لوعي وإلمام بمدى تناسب مكونات الإنتاج المؤسسي والأهداف والبيئة الخارجية للمؤسسة المتمثلة في العملاء وتوقعاتهم والمنافسين وخططهم والجهات التنظيمية وبيئة النشاط العام بصورة شاملة.
إن أي مؤسسة تروم أن ترتقي بأدائها إلى آفاق جديدة يضمن لها التميز والقدرة على تعظيم عائدها النفعي مطالبة الآن أكثر من ذي قبل بتبني هذا النموذج أو آخر يحقق النتائج نفسها ويلم بجميع العوامل المؤثرة في العملية الإنتاجية. هذا النموذج تم استعراضه باقتضاب مراعاة لضيق المساحة فلم يتم التطرق للعملية التطويرية الإجرائية ولا إلى شرح مسهب لفلسفة تقييم وتقويم الأداء التي سيتم الإسهاب فيها في كتابات لاحقة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي