وزارة السعودة

في تعقيب على مقالي "وزارة العمل تنوء بحملها" وردني تساؤل من أحد القراء الكرام على البريد الإلكتروني، يستفسر عما قصدته بقولي إن السعودة بحاجة إلى وزارة خاصة، ويحذر من أن ما فعلته وزارة العمل باسم السعودة كان مضنياً للقطاع الخاص فما بالك لو أفردت للسعودة وزارة خاصة ماذا ستفعل به!!.
في المقال نفسه، ربما لم يتنبه القارئ الكريم إلى أنني طلبت إعادة صياغة مضمون السعودة حتى تكتسب الاحترام، وبينت أن مفهوم السعودة ليس في استبدال موظف وافد بآخر سعودي، فلا أرى أن يقتصر معنى السعودة على عملية توظيف السعوديين، بل إنني أعتقد أن السعودة هي عملية تفعيل وتنمية المواطنة، وحتى أبين أهمية ذلك أود في البداية أن أورد بعض التقديمات.
في منتصف سبعينيات القرن الماضي انتشر في الولايات المتحدة الأمريكية ملصق يوضع على الصدامات الخلفية للسيارات مضمونة الأمريكيون يركبون سيارات أمريكية"، وكان لهذا الملصق تأثير ساحر، حيث أسهم في توازن منافسة السيارات اليابانية الرخيصة والأفضل تقنية للسيارات الأمريكية. وفي عام 1993 جمع وكيل وزارة التجارة آنذاك الدكتور عبد الرحمن الزامل في الوزارة بعضا من كبار التجار المستوردين بحضور مديري الشركة السعودية للنقل البحري وسألهم بالحرف الواحد: ما الذي يجعلكم لا تشحنون بضائعكم مع الشركة الوطنية وأنتم المشترون وبيدكم القوة في تقرير الشاحن؟ فكان الجواب أنهم لا يستطيعون فرض الشاحن حيث تشترط عقود التمثيل اختصاص المصنع بذلك. وقبل ذلك بثماني سنوات كنت أعمل في شركة ميتسوبيشي الإلكترونية في مشروع كهربة القصيم وكان الرؤساء اليابانيون يصرون على شراء المنتجات اليابانية ولو كان سعرها أكثر من المنافس.
يوغسلافيا التي كانت مملكة يوغسلافيا ثم بعد غزوها من قبل دول المحور تحولت في عام 1941 إلى جمهورية يوغسلافيا الديمقراطية تجزأت إلى عدت دول بعد سقوط الظروف التي كانت تجمعها قسراً. فلم تستطع تكوين انتماء حقيقي يحفظها من التفكك. كذلك تشيكوسلوفاكيا التي استقلت كدولة موحدة من الإمبراطورية الهنغارية النمساوية عام 1919 لم يستطع كيانها أن يصمد تجاه دعوات التفكك فباتت 1992 دولتين مستقلتين هما دولة التشيك ودولة سلوفاكيا. في حين أن ألمانيا التي قسمت إلى دولتين غربية وشرقية، لم تكد تضعف قوى التقسيم حتى التأمت في كيان واحد هو ألمانيا. وبلجيكا الدولة الصغيرة في حضن القارة الأوروبية كادت أن تنقسم في عام 1992م بين الفلاندر والولون وهما القوميتان اللتان تمثلان معظم البلاد.
إن ما أورته من حقائق يجمعها قاسم مشترك أعظم هو الوطنية، فالوطنية هي ذلك الشعور الذي يسيطر على العقل والجنان ويتبلور في صورة تصرفات وسلوكيات، بها تقوى الرابطة الوطنية واللحمة بين مكونات الوطن، فمن يصر على شراء منتجات بلاده ولو كانت أغلى من غيرها يسهم في تقوية مؤسسات الإنتاج التي تحمي البلاد من الاعتماد على الأجنبي وتيسر له توظيف المواطن، وصاحب العمل الذي يصر على توظيف المواطن ولو كان أقل منافسة من المستقدم يسهم في بناء أسرة مواطنة صالحة قادرة على دعم العملية الإنتاجية الوطنية بقدرتها الشرائية، والمسؤول الذي يجهد في توجيه التنمية إلى المناطق الأكثر احتياجا في البلاد إنما هو يوزع بعدل اهتمام الدولة بمواطنيها أينما كانوا، والموظف الذي يخدم مواطنيه بكل إخلاص بغض النظر عن مناطقيتهم أو قبائليتهم أو مذهبيتهم هو من يشد وثاق الوطن برابط المحبة والألفة. إن المواطنة ليست مختزلة في تشجيع المنتخب في مباريات كرة القدم الدولية ! وليست مختزلة في الحماس في رد انتقادات الآخرين لبلادنا أو حكامنا ومسؤولينا أو مواطنينا على صفحات الجرائد والساحات وشاشات القنوات! وليست بالتأكيد مختزلة في ترديد النشيد الوطني والوقوف احتراما للعلم! فهي كل هذا، وهي الوعي المستديم للإخلاص في العمل والاعتقاد بأهمية الدور الفردي لكل مواطن في البناء الحضاري للوطن بغض النظر عن طبيعة النشاط، وهي الإدراك العميق لمحاذير الفرقة بين أبناء الوطن والعمل على إجهاضها "فالنار من مستصغر الشرر".
لماذا نحتاج إلى وزارة للسعودة؟ لأننا بحاجة إلى عمل مؤسس يقوم على تقدير واقعنا ويستشعر نقاط الضعف في منظومتنا الوطنية ويخطط البرامج ويقود الجهود في سبيل ردم الفجوات وعلاج العلل التي نعانيها كمجتمع وكنسيج وطن. فبلا مكابرة نحن لدينا من المسائل ما لا يمكن السكوت عنها بعد الآن، ولدينا من الضاربين دفوف الفرقة الذين يجب ألا نتغاضى عن أهدافهم، ولدينا من السذاجة والطيبة ما لم يعد يقبل منها التبرير والتعذير. إن ما واجهته البلاد خلال حملة التطرف وما نتج عنها من مصائب أذهبت أرواحا وأفسدت مصالح، كانت محصلة لذلك التغاضي والتجافي لعل الأمور تصلح نفسها فأصبحنا كمن يدس رأسه في التراب اتقاء العاصفة.
ماذا ستفعل وزارة السعودة؟ إن وزارة السعودة ستعمل على صياغة رؤية وطنية شاملة تحصل عليها من خلال ندوات الحوار الوطني، الذي يجب أن يكون أحد مهامها، ومنها تستشرف ماذا يريد المواطن في كل رقعة من المملكة وما همه وما يحقق له السعادة والقيمة التي يرتضيها لنفسه، وعلى أساسها تصوغ السياسات وتخطط البرامج وتتقمص دور وزارة التخطيط في ذلك، ثم تنسق تنفيذ تلك البرامج من خلال باقي القطاعات الحكومية والخاصة، وتنشئ لذلك فرق العمل ورقابة التنفيذ واستقصاء العائد منها بحيث يكون ذلك بصفة مستديمة. كما أن هذه الوزارة ستقوم بتحديد القيم الاجتماعية التي يراد ترسيخها في الذهنية السعودية وتلك السائدة غير المناسبة للبناء الإنمائي الوطني التي يراد إضعافها وإزالتها، فتوضع لذلك البرامج وتنسق جهود التنفيذ مع وزارات التربية والتعليم والشؤون الاجتماعية والشؤون الإسلامية والعدل والثقافة والإعلام ورعاية الشباب.
هذا ما كنت أرمي إليه بمقترح أن تكون هناك وزارة للسعودة. وما جرأني على طرح ذلك على بساط العموم إلا ما أستشعره من ضرورة ملحة لأن نذهب بوطنيتنا لعيادة الطبيب فنستكشف عللها قبل أن تستفحل. فالأعراض مقلقة والمحيطون بنا نحتاج لترياق يقينا العدوى منهم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي