أبناء الماو ماو وذبح الأطفال

في كانون الثاني (يناير) الماضي بدت كينيا وكأنها تنزلق إلى الجنون. والآن نسترجع هذه المشاهد وكأنها مقاطع من كابوس: أطفال يذبحون داخل كنائس تحترق، ورعاع يُعمِلون سيوفهم في أحياء المدن الفقيرة، وبلد على شفا الانهيار. وبعد انقشاع الغبار كان أكثر من 1500 إنسان قد قُـتِلوا وتشرد أكثر من 400 ألف، وذلك في أعقاب انتخابات اعتبرها المراقبون مزورة.
نجت كينيا من الهاوية بفضل زواج قسري بين رئيس البلاد مواي كيباكي الذي ينتمي إلى مجموعة الكيكويو العرقية، وبين منافسه رايلا أودينجا الذي ينتمي إلى قبيلة اللو، والذي حصل على منصب رئيس الوزراء. ولقد ساعدت حكومة تقاسم السلطة هذه، بدعم من الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان والقوى الغربية، في استقرار البلاد ومنح الشعب الكيني الأمل في هذا العام العصيب الذي شهد ارتفاع أسعار الغذاء والوقود إلى عنان السماء واجتياح الجفاف لشمال البلاد.
ولكن إذا كان للحكومة أن تنجح وأن تمنع المزيد من أعمال العنف في المستقبل فيتعين على كينيا أن تعالج الجذور التي أدت إلى فوضى الانتخابات. وهذا يتضمن علاج الفقر، والقَبَلية، وفشل البلاد في الارتقاء إلى مستوى رؤية رئيسها الأول جومو كينياتا.
في حديث له في عام 1952 ـ قبل الاستقلال ـ قال كينياتا: "لم يعرف التاريخ قط دولة ازدهرت دون أن يتساوى أهلها. فما دام هناك أناس مرغمون على الحياة في ظروف متدنية فلابد وأن ينتشر الفساد، والحل الوحيد لهذا هو تبني سياسة المساواة. وإذا عملنا معاً عمل رجل واحد، فلابد وأن يكون النجاح من نصيبنا".
إن كينيا اليوم لا تشبه هذه الرؤية إلا قليلاً ـ 48 في المائة من أهل كينيا يعيشون في فقر، و75 في المائة من الشباب عاطلون. والأحياء الفقيرة مثل حي كيبيرا في نيروبي ـ الذي يؤوي ما يزيد على المليون نسمة ـ ما زالت محرومة إلى حد كبير من الخدمات الحكومية.
في ظل هذا الخواء نشأت العصابات القَبَلية، ومنها عصابة كالينجين ساباوت العِرقية التي تطلق على نفسها قوة الدفاع البرية، وعصابة طالبان لو، والتي أطلِق عليها هذا الاسم، طبقاً لأحد المصادر، تكريماً لدفاع الأبطال من الأفغان "عن أهلهم وطريقة حياتهم". وكثيراً ما تتحدى هذه الجماعات القانون والنظام بالترهيب والابتزاز والعنف.
ولكن أياً من هذه الجماعات لم تغضب الحكومة كما أغضبتها جماعة كيكويو مونجيكي. وهذه المنظمة ـ التي تضم عضويتها مليون شخص ـ مذنبة بارتكاب أعمال عنف مروعة ومستمرة بلا هوادة، بما في ذلك قطع رأس ابن واحد من أهم حلفاء كيباكي.
نستطيع أن نتتبع نشأة مونجيكي إلى أبناء وبنات مقاتلي الماو ماو، وهم من أهل الكيكويو الذين جُرِدوا من أملاكهم وطُرِدوا فحاربوا النخبة من أهل الكيكويو والمستعمرين البريطانيين أثناء فترة خمسينيات القرن الـ 20. واليوم نذروا على أنفسهم أن يكافحوا النخبة الحاكمة، والمسيحية، والنفوذ الأجنبي، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، الذي يتهمونه بإعادة استعمار كينيا. وهم يزدرون الثقافة الغربية ويروجون لمعتقدات الكيكويو التقليدية مثل ختان البنات.
ولقد ردّ كيباكي بقوة على المونجيكي، فشن حملة على غرار "الحرب ضد الإرهاب" لإلحاق الهزيمة بهم، وهو ما أدى إلى وقوع الآلاف من القتلى، طبقاً لما ذكرته جماعات حقوق الإنسان الكينية. حصل كيباكي على العون من إدارة بوش التي كانت تخشى أن يؤدي عدم الاستقرار في كينيا إلى إلحاق الضرر بمصالح الشركات الغربية وتعريض عمليات مكافحة الإرهاب الأمريكية في الصومال للخطر.
ولكن في حين كان رئيس كينيا يحاول قمع المونجيكي، يُقال إن بعض حلفائه من الكيكويو في الحكومة عملوا على تنشيط المونجيكي باعتبارهم كلاب هجوم في أعقاب هجمات شنتها جماعة اللو وبعض القبائل الأخرى على الكيكويو أثناء الفوضى التي سادت مرحلة ما بعد الانتخابات. ويظن الكثير من أهل كينيا أن أسماء هؤلاء الساسة مدونة ضمن "قائمة سرية" تحمل أسماء جميع المسؤولين المذنبين من كل الأطراف، والتي اشتمل عليها تقرير حديث لوزير العدل الكيني فيليب واكي.
الحقيقة أن هذا التناقض في التعامل مع المونجيكي من جانب الحكومة يشكل مؤشراً جيداً لما يعيب كينيا من أخطاء. إذ إن فشل الدولة في رعاية مواطنيها، والفقر، والتهميش السياسي والنزاعات على الأرض التي تفاقمت، كل ذلك عمل على تعزيز قوة الميليشيات العرقية التي تحولت إلى كيان أشبه بحكومة ظِل قَبَلية، حتى إنها كثيراً ما عملت على توفير الخدمات الاجتماعية للناس. ثم بعد ذلك عمدت الحكومة إلى سحق الميليشيات بكل وحشية، الأمر الذي أدى إلى تفاقم الأمور سوءاً، واستغلال الساسة للأطراف الفاعلة في البلاد تحقيقاً لأغراضهم الخاصة.
لكسر هذه الحلقة، يتعين على كينيا أن تتبنى توجهاً جديداً في التعامل مع الحكومة ـ العودة إلى رؤية كينياتا الأصلية في العدالة والمساواة، وفتح السبيل أمام الفقراء للاستفادة من النمو الاقتصادي والعولمة.
هذا لا يعني استخدام سلطة الدولة لسحق الجماعات التي كانت نشأتها راجعة جزئياً إلى فشل الدولة ذاتها، بل إن الأمر يتطلب دعم القانون والنظام من خلال ملاحقة المذنبين فقط ومحاولة فهم الأسباب التي يسرت لهذه الجماعات تجنيد الناس في المقام الأول. وكان تعهد أودينجا في العام الماضي بالبدء في الحوار مع المونجيكي بمثابة خطوة طيبة، ولكن لابد وأن يتبع هذه الخطوة عمل حقيقي.
إن الشعب الكيني لابد وأن يفخر بما تمكن من إنجازه في غضون عام واحد، وهو العام الذي شهد أيضاً انتخاب الرجل الذي يعتبرونه منهم، باراك أوباما، رئيساً لأمريكا. ولكن إذا استمر النمط القديم، واستُـبعِدت الغالبية العظمى من السكان المبتلين بالفقر من العملية السياسية، فقد تنفجر البلاد في موجة أخرى مروعة من أعمال العنف.
الحقيقة أن جميع الأطراف المعنية، بما في ذلك حكومة الائتلاف والحلفاء الغربيين، يدركون تمام الإدراك أن المخاطر أعلى كثيراً من أن يسمحوا لأنفسهم بالعودة إلى "العمل المعتاد".

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي