مستقبلنا والقرارات الإصلاحية 2
لا بد لنا من وضع استراتيجية واضحة تتبنى أهدافا اقتصادية قابلة للقياس، وملزمة للجميع، تغير حالنا، وتصلح وضعنا الاقتصادي، وتقلل مخاطر تقلبات عوائد النفط.
ما انفك اقتصادنا يعتمد بشكل كبير على مصدر وحيد للدخل. ولم تنجح خطط التنمية خلال الـ 40 سنة الماضية في إحداث تغيير حقيقي في هيكل اقتصادنا. وسيظل الوضع كما هو ما دمنا لم نترجم هدف تنويع مصادر الدخل إلى هدف كمي قابل للقياس والإنجاز خلال فترة زمنية معينة. كأن يكون الهدف تخفيض نسبة اعتماد الاقتصاد على النفط من 90 في المائة إلى 70 في المائة مثلا خلال عشر سنوات، ثم إلى 50 في المائة خلال 20 سنة، وهكذا.
هذا التحدي المزمن جعلنا عرضة لتعثر أو توقف برامج التنمية كلما انخفضت عوائد النفط. بينما تولد زيادة أعداد السكان ضغوطا مستمرة ومتزايدة على الموارد، تقف الموارد العامة قاصرة عن تحمل ضغط طلبات السكان المتزايدة على الوظائف والخدمات الصحية والتعليمية والإسكانية والبلدية وخدمات البنية التحتية وغيرها. وعلينا أن نجد مخرجا من هذه الحلقة الخطرة، إن أردنا السلامة والاستقرار لمجتمعنا. وهو ما يفرض علينا تبني استراتيجية جديدة ومغايرة تحمينا من هذه التقلبات وتنقذ اقتصادنا من هذه الهزات المتكررة. والأمر ليس صعبا كما يتوهم البعض، بل إنه ممكن وقابل للإنجاز متى توافرت النوايا الصادقة والعزائم الماضية والرؤى الواضحة، فلسنا أقل من غيرنا فهذه ماليزيا أو سنغافورة لم تكن شيئا مذكورا قبل 50 عاما، بيد أنها غدت بعزائم الرجال ووضوح الرؤى دولا يشار إليها بالبنان. وما وسع هذه الدول يسعنا، وأقصر طرق النجاح هو أن نقلد سبل الناجحين، وهذا ما فعلته اليابان وكوريا ثم الصين وبقية دول شرق آسيا. لا بد لنا من وضع استراتيجية واضحة تتبنى أهدافا اقتصادية قابلة للقياس، وملزمة للجميع، تغير حالنا، وتصلح وضعنا الاقتصادي، وتقلل مخاطر تقلبات عوائد النفط.
وعلينا في الوقت ذاته إصلاح الأسس التي يقوم عليها نظامنا الاقتصادي لتوفير البيئة الاقتصادية الصحية التي تعيننا على تنفيذ هذه الاستراتيجية، وإلا سنصادف مزيدا من المتاعب والعقبات الإدارية التي لن تجعل لأية إجراءات اقتصادية تأثيرا يذكر.
إن فاعلية النظام الاقتصادي إنما تقاس بمدى نجاحه في تحقيق هدفين: هما الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، وقد بينت التجارب المؤكدة أن إطلاق العنان للمنافسة بين الأفراد والمؤسسات أثناء ممارستهم الأنشطة التجارية، وعدم مزاحمة الحكومة لهم، بل يقتصر عملها على التوجيه والتنظيم والتحقق من حرية تفاعل قوى العرض والطلب في مختلف الأسواق، سيضمن إلى حد بعيد تحقيق هدف كفاءة النظام المتمثل في ارتفاع جودة المنتجات والخدمات وانحسار تكاليفها.
إن الاختناقات والإخفاقات التي يعانيها اقتصادنا في قطاع الإسكان، التعليم، الصحة، خدمات النقل الجوي، وخدمات المرافق العامة على سبيل المثال، تحتاج إلى إجراءات تنظيمية حاسمة وسريعة.
فعلى سبيل المثال، التحديات التي يفرضها معدل نمو السكان العالي في بلادنا وطبيعة تركيبته الشبابية، تعكس حاجة البلاد الماسة إلى تطوير منظومة قطاع الإسكان من كل جوانبها القانونية والتنظيمية والفنية والتمويلية، خاصة أن هذا القطاع يأتي في المرتبة الثانية في اقتصادنا من حيث الحجم بعد قطاع النفط والغاز، وسيكون لتطويره وإعادة هيكلته أثر كبير في رواج الاقتصاد، فهذا القطاع يئن تحت وطأة مشكلات هيكلية وتنظيمية مزمنة. وقس على ذلك بقية القطاعات، ففي مجال خدمات النقل الجوي وجدنا أنفسنا بدلا من فتح باب المنافسة نستبدل محتكرا بمحتكر آخر!
هذا ما كان من أمر الكفاءة الاقتصادية، أما فيما يتعلق بجانب العدالة الاجتماعية، فإن النظام الاقتصادي الجيد يحتاج بجانب ضمان حرية الأسواق والمنافسة، إلى آليات وترتيبات وأنظمة تضمن عدالة توزيع الموارد والثروات والفرص التجارية بين أفراد المجتمع، وهذا لن يتحقق إلا بكسر الاحتكارات والقضاء على الفساد للمحافظة على سلامة المجتمع واستقراره.
والجميع مستبشر أن تعمل سياسة التطوير التي يتبناها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز- أيده الله - على تكريس هذا الاتجاه، من خلال تبني استراتيجيات إنقاذ وسياسات إصلاح تسمح بتوسيع قاعدة الاقتصاد الإنتاجية وتوليد مزيد من فرص العمل للأعداد الناهضة من فتية البلاد وفتياتها من الباحثين عن مصادر رزق تحقق لهم الاستقرار وتحولهم إلى قوى منتجة وتبعدهم عن الفراغ القاتل والإحباط المدمر، الذي قد يجعلهم عرضة للأفكار المتطرفة. الزمن يتغير بسرعة وعلينا قبول التغيير ومجاراته وتسريع خطى الإصلاح قبل أن يصبح ثمنه فادحا ومكلفا.