حصاد العام .. مغانم رغم الجائحة
حصاد العام .. مغانم رغم الجائحة
كان الجميع قبل عام 2020 ينتظر هذا العام الرقم المميز ذاته، مع ما يعنيه من بداية عقد جديد، في مدار التقدم والرقي الإنساني، لكن مسار الأحداث منذ الشهر الأول كان نقيض الأماني والأحلام، حيث توالت النكبات والنوائب على العالم بأسره، فطوفان كورونا ساوى بين الكل، مسقطا كل الاعتبارات، فلا فرق بين العالمين المتقدم والمتخلف، ولا قيمة للحدود الجغرافية، ولا حتى للقوة العسكرية.. تدريجيا، صارت أسابيع هذا الحول كابوسا مرعبا، يترقب الناس زواله في أسرع وقت.
لقد استطاع كورونا أن يستحوذ على حصاد هذا العام، فغدا مدار أحاديث معظم التقارير والأبحاث عن الحصيلة السنوية، فهذا العام، وبإجماع المراقبين، عام جائحة بكل المقاييس، ودخل فعليا كتب التاريخ باسم "عام كورونا". لكن هذا لا ينفي وقوع أحداث مفصلية طي هذه العام، يتوقع أن تتراخى تداعياتها إلى المستقبل المنظور، ليكون كورونا الحدث الأبرز الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، لكنه قطعا ليس الأوحد على مدار العام.
أرقام قياسية سلبية
ما بين 9 كانون الثاني (يناير) تاريخ تسجيل أول حالة وفاة، بسبب فيروس كورونا، و8 كانون الأول (ديسمبر) تاريخ إطلاق بريطانيا حملة تطعيم بلقاح فايزر/بيونتيك ضد الفيروس، سجل الوباء أرقاما قياسيا في سرعة توسعه الجغرافي، وقوة تأثيره في النشاط البشري. فبعد مضي ثلاثة أشهر فقط على بدء انتشاره، أجبر أكثر من 3.9 مليار شخص، أي ما يعادل نصف البشرية، على الخضوع للحجر كرها أو طوعا، في سابقة هي الأولى من نوعها في التاريخ الحديث، كما دفع 88 مليون شخص جديد إلى براثن الفقر المدقع هذا العام، مع احتمال أن يرتفع رقم "الفقراء الجدد"، بحسب الأحوال إلى 115 مليونا.
لم يكن تحطيم الأرقام القياسية هذا العام حكرا على الوباء، فمشكلة التغير المناخي عادت مجددا إلى الواجهة، بعد أن دقت ظاهرة الاحتباس الحراري ناقوس الخطر، بالتحذير من المسار غير السليم الذي تنحوه الإنسانية. فقد سجل منتصف آب (أغسطس) درجة حرارة قياسية، بلغت 54.4 درجة مئوية في منطقة وادي الموت "ديث فالي" في كاليفورنيا، وهي ثالث أعلى درجة تسجل على الأرض، بعد الرقمين القياسيين اللذين سُجّلا في المنطقة في عامي 1913 و1931.
تجاوزت أحداث الطبيعة التحذير نحو "التأديب"، ففي آسيا أدت فيضانات نهر براهمابوترا إلى تشريد أربعة ملايين شخص في نيبال والهند. حال السودانيين مع نيلهم لم يكن أفضل من الآسيويين، فالفيضان المدمر الذي ضرب البلاد أوائل أيلول (سبتمبر) جعل من يملك بقعة جافة أكثر السكان حظا، بعدما غرقت مدن وقرى بأكملها. مقابل ذلك، شهدت مناطق متفرقة من العالم "سورية، لبنان، إندونيسيا، الجزائر..." حرائق هائلة في الغابات، لكن أسوأها على الإطلاق كان في كاليفورنيا الأمريكية، وكذا أستراليا التي لحقت بها خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات، ومن بينها نفوق نحو 500 مليون حيوان، وهلاك ملايين الهكتارات.
الكوارث البشرية لا تقل فداحة عن الكوارث الطبيعية، ففي حزيران (يونيو)، وفي غمرة الانشغال الإنساني بالبحث عن سبل التعايش مع فيروس كورونا، أعلنت روسيا حالة الطوارئ بعد تسرب 20 ألف طن من النفط إلى نهر أمبارنايا في سيبيريا، في ثاني أكبر حادثة في التاريخ الروسي الحديث. شهد لبنان، بعد شهرين تقريبا، كارثة إنسانية عقب انفجار مرفأ بيروت في 4 آب (أغسطس)، ما أدى إلى مقتل أكثر من 220 شخصا، وإصابة آلاف وتشريد 300 ألف شخص.
استحواذ كورونا على يوميات 2020 بما فرضه من بروتوكول صحي، وما يقتضيه من تباعد وإجراءات وقائية، لم يحل دون اندلاع موجة احتجاجات، ضد العنصرية، في عديد من المناطق في العالم، كانت أشهرها المسيرات الحاشدة، في عدة مدن في الولايات المتحدة، تنديدا بمقتل المواطن الأمريكي الشاب جورج فلويد، بعد تعرضه للخنق تحت أرجل رجال الشرطة.
صحيح أن البشرية واجهت تحديات غير مسبوقة خلال هذه الجائحة، فملايين من البشر في كل بقاع العالم عانوا بدرجات متفاوتة من جراء كورونا، لكن هذا الوضع الاستثنائي العام لا يجب أن يكون سببا وراء صرف النظر عن النصف الملآن من الكأس، فعام 2020 لم يسلم من أحداث ومنجزات، سيكون لبلوغها وقع خاص في العالم، لولا أنها حدثت في زمن كورونا البئيس.
مكاسب وفأل خير للمستقبل
أربك هجوم كورونا غير المتوقع العالم قاطبة، فبدت الدول والمؤسسات الدولية شبه تائهة، فما يحدث غير مدرج ضمن سقف توقعات خبرائها، وضعية تضع العالم على كف عفريت، ما استدعى التدخل لإنقاذ العالم قبل فوات الأوان، وحدث أن صادفت هذه الجائحة تولي المملكة العربية السعودية قيادة مجموعة العشرين، فدعت إلى عقد قمة استثنائية افتراضيا، في 26 آذار (مارس)، حشدت العالم الحيران مبكرا ضد كورونا، من خلال مناقشة سبل المضي قدما في تنسيق الجهود العالمية لمكافحة الوباء، والحد من تأثيره الإنساني والاقتصادي، واستمرت الرياض في قيادة العالم لمواجهة تداعيات الوباء، في قمة القادة العادية لقادة المجموعة في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي.
سجل هذا العام تقدما مهما في تمثيل النساء في المحافل السياسية والعلمية، فقد انتخبت كامالا هاريس نائبة للرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن، وبذلك تكون هاريس أول امرأة تشغل هذا المنصب، والأهم أنها أول امرأة من أصول جنوب آسيوية، ومن المتوقع أن تكون الأوفر حظا في الفوز بترشيح الحزب الديمقراطي، بعد أربعة أعوام من الآن، وهذا يمكن أن يمنحها فرصة أكبر لدخول التاريخ، كأول رئيسة للولايات المتحدة. هذا ويشير تقرير الأمم المتحدة عن النساء إلى أن وجود المرأة تضاعف في المقاعد البرلمانية عالميا، علاوة على وجود 20 حكومة حول العالم حاليا تتولى المرأة رئاستها.
شهد المجال الصحي هذا العام تطورا نوعيا، يبشر بقرب اكتشاف علاج لداء السرطان، فالمؤشرات واعدة بإمكانية اكتشاف لقاح لهذا المرض، فقد أفاد علماء أستراليون في تموز (يوليو) بأن الدراسات المخبرية للقاح جديد ضد المرض أظهرت علامات مبشرة، وعبروا عن أملهم في استخدام هذا اللقاح في علاج سرطانات الدم، إضافة إلى الأورام الخبيثة بما في ذلك سرطان الثدي والرئة والكلى.. وجاء هذا اللقاح ثمرة تعاون جمعهم في جامعة كوينزلاند.
سرطان الإرهاب بدوره تراجع هذا العام، بحسب ما أفاده معهد الاقتصاد والسلام، في تقريره حول "مؤشر الإرهاب العالمي"، وهذا طبيعي، فهو من ناحية نتيجة الجهود الدولية المبذولة طيلة الأعوام الماضية لمكافحة الإرهاب والتطرف العنيف، ومن ناحية أخرى، يقهر القوى الدولية الداعمة للمتطرفين، فإيران مثلا فقدت بداية هذا العام الجنرال قاسم سليماني مهندس التدخلات الخارجية لإيران، وصانع خطط عمل أذرع وعملاء إيران في الخارج.
أكيد أن الاختلاف سيد الموقف عند تقديرنا لحصاد هذا العام، لكن الإجماع قائم على أن الإنسانية خرجت من عام 2020 بدرس بليغ، مفاده أن فيروسا مجهولا غير مرئي بمقدوره أن يشل الحياة على كوكب الأرض.. نعم إنها رسالة تذكير للإنسان بحجمه وقوته.