مستقبلنا والقرارات الإصلاحية

تعرضت مسيرة التنمية في بلادنا لتقلبات اقتصادية حادة خلال السنوات الثلاث الماضية، لكن الملاحظ أننا ما زلنا نعالج الأمور بطرق تقليدية بطيئة لا تناسب روح العصر بتحدياته الكبيرة والمباغتة، فالأحداث تسبق قراراتنا العلاجية، وكثيرا ما تأتي هذه القرارات متأخرة، بدلا من أن تواكب الأحداث، فضلا عن أن تسبقها عند ظهور مؤشرات أولية على وجود عواصف اقتصادية مقبلة. ولا نرى أثرا للمراجعة والحساب، وما نفعله اليوم يعكس إلى حد كبير ما سيكون عليه حالنا في المستقبل. (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). ويبدو أن إدارة شؤون الاقتصاد في بلدنا لا تسير وفق رؤى استراتيجية وبرامج تنموية وأهداف اقتصادية واضحة، وإن وجُدت نظريا لا نرى لها أثرا عمليا ملزما للجميع. ومع أن لدينا وزارة للتخطيط والاقتصاد، إلا أن الجميع يكاد ينسى وجودها، لأنها غدت أكثر الوزارات غيابا، فنحن لا نكاد نجد لها حضورا، أو نرى لها دورا، أو نسمع لها صوتا، تجاه التطورات الاقتصادية التي داهمتنا، حتى بات المرء يشعر أن طريقة إدارة اقتصادنا لا تخرج عن أن تكون ردود أفعال لما يحدث، وشبيهة بتصريف الأعمال اليومية لمصلحة حكومية تقليدية!
فنحن كلما داهمتنا ظاهرة أو مشكلة اقتصادية رأيناها تعيث في طول البلاد وعرضها تأثيرا وتعطيلا وتأخيرا، حتى إذا بلغت الأمور الحلقوم بدأنا نتحرك تحت ضغط الرأي العام، لكنه تحرك عجيب يبدأ غالبا بنفي وجود المشكلة، ثم في مرحلة لاحقة يأخذ رد الفعل شكل التقليل من شأنها، فإذا استفحلت خرجت التصريحات التي تبرر المشكلة في زيادة الضغط على الخدمة أو سوء الاستخدام (النقل الجوي، وخدمات المياه مثالا)، ثم يعدون بالبحث عن أسباب المشكلة وتشكيل لجان لدراستها. والعجيب أن جل أعضاء هذه اللجان هم من الهيئات الإدارية التي صنعت المشكلة أو كانت سببا في استفحالها، شاهدنا ذلك في أزمة سوق الأسهم، وفي ظاهرة التضخم، ونشاهده اليوم فيما لحق اقتصادنا من مظاهر الركود الذي عم العالم، وقبل هذا وذاك رأيناه في قضايا أساسية لا تقبل التأجيل أو الهروب من المسؤولية، كاستفحال ظاهرة البطالة، نقص خدمات التعليم العالي نوعا وكما، تدهور خدمات النقل الجوي، تخلف قطاع الإسكان، وتعطل مشاريع البنية التحية، إلى آخر هذه المشكلات.
كثيرا ما أطلت النظر في هذه المشكلات حتى وصلت إلى قناعة أن من أهم أسباب تأخر الحلول هو المركزية الشديدة في اتخاذ القرارات، وتصور بعض المسؤولين أن الحلول تعتمد دائما على توافر الاعتمادات المالية، بيد أن الناظر في مثل هذه الظواهر الاقتصادية التي تحولت في فترة ما إلى مشكلات حقيقية عطلت مسيرة التنمية في بلادنا، يمكنه أن يلحظ أن كثيرا منها لا يحتاج إلى اعتمادات مالية، بقدر ما يحتاج إلى حلول إدارية وتنظيمية تعتمد أسلوب عمل ومنهج تفكير جديد يناسب تغير الظروف.
مشكلة اقتصادنا متكررة وواضحة: عدد السكان في تزايد، والموارد العامة محدودة (وأحيانا نادرة) عند انخفاض أسعار النفط، وكل شيء يعتمد على الدولة، وموارد الدولة لا تستطيع أن تتحمل ضغط طلبات السكان المتزايدة على الوظائف والخدمات الصحية والتعليمية والإسكانية والبلدية وخدمات البنية التحية وغيرها، ومن ثم نحتاج إلى استراتيجية جديدة ومغايرة تحمينا من هذه التقلبات.
وإني أذكر عندما كانت أسعار النفط متدنية، وكان ضعف الموارد المالية يعصف ببلادنا، والمشكلات الاقتصادية تطل برأسها من كل جانب وتهدد بظهور مخاطر أمنية واجتماعية، كتبت لولاة الأمر من منطلق إحساسي بمسؤوليتي الوطنية، عما أعتقد أننا في حاجة إلى عمله، وكان ذلك قبل أحداث 11 أيلول (سبتمبر) عام 2001م، وقد وجدت منهم ـ حفظهم الله ـ تقديرا واهتماما بما قلته، نقله لي شفاهة نيابة عن الأمير سلطان الأخ الدكتور محمد الرشيد وزير التربية والتعليم السابق، ثم جاءني خطاب شخصي كريم منه ـ رعاه الله. ومما قلته آنذاك: إن بلادنا واجهت تحديا سياسيا كبيرا في بداية تأسيس الدولة، وقد نجح الملك عبد العزيز بمهارة الزعماء التاريخيين أن يواجه ذلك التحدي باقتدار ويؤسس دولة ويوحد أمة ويوفر لها الأمن والاستقرار، وكان هذا إنجاز تاريخي عظيم تمَّ تحت وطأت ظروف حربين عالميتين طاحنتين ومطامع استعمارية تلت انهيار الخلافة العثمانية.
أما اليوم فنحن نواجه تحديا من نوع آخر لا يقل أهمية عن تحديات عهد التأسيس، وهو التحدي الاقتصادي. وأكررها مخلصا وأقول: إن كل التحديات الأخرى ستتوارى وستتلاشى وستضعف لو نجحنا في مواجهة التحدي الاقتصادي، فالاستقرار الاقتصادي من أهم دواعي الاستقرار الاجتماعي والأمني. إن الأمة اليوم بحاجة إلى قوة دفع جديدة ميدانها الاقتصاد أكثر من أي ميدان آخر، ولا يمكن الاستمرار في الاعتماد على إنجازات الماضي في الوحدة والأمن لضمان الاستقرار، فقد ولدت أجيال وجدت الوحدة والأمن إنجازا قائما فتنعمت به وعَّدت وجوده أمرا طبيعيا. وهي تتطلع اليوم إلى ما بعد الوحدة والأمن، تتطلع إلى نصيبها في السكن والتعليم والوظيفة والرعاية الصحية، لهذا، تلقى المجتمع بقدر كبير من التفاؤل والاستبشار، القرارات الملكية الإصلاحية الجديدة، يحدوهم الأمل أن توفر هذه الإصلاحات وما سيتلوها من إصلاحات أخرى، قوة الدفع اللازمة التي يحتاج إليها مجتمعنا ليواصل مسيرة التنمية والاستقرار. وللحديث صلة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي