انتبه من الاندثار
هل باتت أغلبية البشر غارقين في العوالم الافتراضية لدرجة نسيان الواقع، أو كيف تعاش الحياة؟ أو كيف تعمل بعض الحواس لتحقيق السعادة، أو التسبب في التعاسة؟ ربما يبالغ البعض عند قول ذلك، وربما تحذيراتهم من سرقة الواقع والتعرض لخطر يهدد قدرة البشر، إنذارات مهمة، لكنها تهمل كما أهملت إنذارات كثيرة مرت على الناس طيلة تاريخهم.
لا شك أن هناك اندثارا لكثير من الأشياء، فمثلا قرأت مرة أن هناك خوفا من "اندثار المشافهة"، وتأملت في المعنى الخفي لهذا التعبير، فوجدته بالفعل اندثارا متوقعا، لأن مخاطبة الناس دون النظر إلى عيونهم لقراءة لغة العيون، ودون علاقة اللسان بالأذن، ستفضي يوما ما إلى ما يمكنني تسميته "ندرة" القادرين على المشافهة.
إمكانية ذلك بدأت بالتشكل، مثلا كل من يملك هاتفا، لم يعد يمل من الانتظار. باتت قاعات الانتظار أكثر هدوءا، وقل استعمال المنبه في الإشارات المرورية، وقلت الغيبة والنميمة في المجالس، لأن الأغلبية تنكفئ رؤوسهم على هواتفهم، وبات عالم الكثيرين بين كفيه، يجلس معك في المكان نفسه، لكنه ذهنيا في مكان آخر، إذا لم تعد هناك "مشافهة" بينكما.
نقطة أخرى، تقلل المشافهة استهلاك القصص والأخبار بشراهة كبيرة، ولم يعد هناك خبر أو قصة يمكن فتح الحديث عنها، لأن كل من حولك تقريبا وصلت إليهم بإحدى وسائل برامج المحادثة، أو الإعلام الاجتماعي، وهذا يجلب حسنات اتصالية، حيث إن الجميع يعرف، أو عرف في هذه الحالة، لكنه يتضمن سيئات تواصلية، إحداها بالفعل قلة ما يمكن الحديث عنه حتى مع أقرب الناس إليك.
مجتمعات الرقمنة - إن صح الوصف - بطابعها الاتصالي الحالي، تعيد تشكيل صلاتها الداخلية ببعضها بعضا، وبالطبع صلاتها الخارجية بمجتمعات أخرى، فالكثيرون يعرفون كثيرا عن كثيرين غيرهم، وأصبحت الانطباعات البشرية تبنى وتتشكل افتراضيا عبر الشاشات، وليس عبر السفر والاحتكاك مثلا، وهنا أيضا سيقل كثير من المشافهة عند سفرك، لأنك بت تعرف أكثر، فستقل بالضرورة أسئلتك وتساؤلاتك، ثم لاحظ أنك عند عودتك لم يعد هناك كثير مما ترويه للآخرين عن رحلتك، فقد سبقوك افتراضيا إلى ما سبقتهم إليه واقعيا.
الإقبال على الافتراضي مهم إلى درجة معينة، وربما جميل أحيانا، والأجمل ألا يكون هروبا من واقع، أو عيشا في متخيل له بريق السراب، والأهم ألا تندثر بعض ميزاتك البشرية!