المخاض العسير إلى المعاصرة
يرى مالك بن نبي أن الحضارة الإسلامية توقفت عن الصعود في معركة صفين عام 32 هـ عندما نجح البيت الأموي في اغتيال الحياة الراشدية بالانقلاب العسكري.
ودخلت الأمة مرحلة التمدد الأفقي، في مخطط الحضارة بين الصعود والانحدار، ويعتبر مالك بن نبي أن هذه المرحلة هي طور العقلانية حتى اختتمت عند (ابن خلدون) قبل ستة قرون.
ومنذ ذلك اليوم دخل العالم الإسلامي ليل التاريخ، وهذه نقطة مهمة لإدراك أين نعيش الآن؟ ولماذا نعاني مخاضا عسيرا بعدم القدرة على التكيف مع العالم المعاصر الذي لم نشارك في بنائه.
وظهر هذا واضحاً في تعصب الطالبان ضد الفكر والنساء والبشر والحجر فدمروا كل شيء. كذلك الحال في سواطير الجزائر والمذابح الطائفية في العراق، لأن التعصب لا يعرف التسامح أو العقلانية أو المراجعة أو قدرة النقد الذاتي عندما يختلط الإلهي بالبشري.
و(طالبان) عينة ممتازة لطبيعة الثقافة السائدة في وسطنا، وفي أي بلد يصير الحكم فيه لمن تثقفوا بهذه الثقافة سيتصرفون على هذا النحو.
والسبب أن الذين يرضعون من هذه الثقافة غافلون عن تطور التاريخ وولادة العالم الجديد فهم تحت ضغط فكرة أن العالم خلق وانتهى وليس فيه صيرورة، ولا يستوعبون إمكانية حدوث شيء جديد فيه، وهو بدوره يجعلهم لا يتحررون من قبضة أفكار الآباء المقدسين فهم على آثارهم يهرعون.
"أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون".
بينما القرآن يقول غير ذلك على ثلاثة محاور؛ فالخلق لم ينته بناؤه، والكون في ازدياد (يزيد في الخلق ما يشاء)، والعلم لا حد له (وفوق كل ذي علم عليم)، وصيرورة الخلق في حالة تطور (ويخلق ما لا تعلمون).
وأصل البلاء أن العالم كله بما فيه العالم الإسلامي - إلا ما رحم ربك - يرون أن أفضل ما يستخرج من الإنسان بـ (الإكراه) وليس بـ (الإقناع) وهذه الفكرة راسخة ومسيطرة وبديهية ومسلم بها لا حاجة لإعادة التفكير فيها. فهذه المسلمة هي أصل البلاء.
ونزل القرآن لاستئصال جذر هذه الفكرة من الوعي واللاوعي الإنساني. وهذا يمثل أكبر انقلاب في الحياة البشرية، ولقد أتى الأنبياء بهذه الفكرة ولكنها فهمت على أنها (خارقة)، وليست سنة ثابتة في الطبيعة البشرية. ففهموا أن القوة ليست قوة العضلات والأسلحة والجند بل هي العقل والتسخير بالسنن.
وينبغي ألا نملّ من تكرار هذه الحقيقة مهما تغافل عنها الناس أو ضلوا، فالإنسان ينفرد بفهم سنن الوجود المادي والحياتي والنفسي الفكري.
وكلٌ في مستواه قابلٌ للتسخير.
فأما تسخير المادة وتفجير الذرة ومعجزة الاتصالات فسخَّرها الإنسان بوضوح، وأما الحياة والبيولوجيا فقد تمكن منها فأطال الأعمار وطرد الآلام وشفى الأمراض.
ولكن قوانين أمراض النفس والمجتمع لا تزال جراثيمها مخبأة غامضة. والأنبياء وضعوا هذا الأساس الفكري للطبيعة البشرية بصناعة المجتمع بالإقناع من دون عنف.
وهذا الفكر لا يقبله العالم الإسلامي بشقيه المتدين وغير المتدين، فكلاهما يؤمن بالقوة سبيلا للنهضة؟ وهو ما يعلم في الجوامع والجامعات.