أوباما وتحديات الشرق الأوسط
كانت والدتي يرحمها الله تقول لي "لا تذم ولا تشكر قبل ستة أشهر"، أي أن المرء ينبغي ألا يسرع في الحكم على الآخرين، فقد يكون ظاهره طيبا وباطنه خبيثا أو العكس. وعندما يفد رئيس أمريكي جديد تكثر التكهنات، والبعض يراه نزيها عادلا والآخرون يرونه شريرا متربصا. والمصدر الأكبر للحكم على الوافد الجديد يأتي من الحملة الانتخابية، وما ردده المرشح الذي أصبح رئيساً فعلياً. وقد أثبتت الأيام عبر آلاف السنين أن ما يقوله الشخص قبل توليه الحكم لا علاقة له بما يحدث عندما يمسك بزمام الأمور. والحالة الغالبة أن الجديد يؤدي ما كان يؤديه القديم بالحرف الواحد، مع غلالات كثيفة من التغطية الإعلامية. والتغطية هنا بمعناها الحرفي أي الإخفاء.
عندما نجح أوباما تعالت الصيحات: ها نحن أمام رئيس مختلف! ولكن السؤال هل يمسنا هذا الاختلاف أم أنه يتعلق بشعبه؟ أوباما جاء في أعقاب أزمة مالية طاحنة سيعانيها الأمريكيون، وشاغله الرئيسي هو التقليل من التأثيرات الكارثية، ولذا فإن الرجل سيعطي الداخل الكثير من الاهتمام، وهذا هو سبب نجاحه ولن ننسى أن الإنجليز رفضوا بطل الحرب العالمية الثانية ونستون تشرشل الذي اعتبر بطلا بمعايير الخارج، ولكنه بمقاييس الداخل كان الرجل الذي فرض التقشف وزج بالآلاف إلى ساحات القتال، فاختير كلمنيت آتلى الذي قدم للإنجليز التعليم المجاني في المراحل حتى الثانوية والتأمين الصحي.
أوباما أعلن شعار "التغيير" وهو شعار بديهي فالحزب الديموقراطي ليس الجمهوري (الذي تأسس 1854 للقضاء على دكتاتورية الحزب الديموقراطي!)، والتغيير يعني رفض سياسة بوش التي قامت على أساس الاختلاف الأيديولوجي والإعلان عن أن من لا يقف معه فهو عدوه، وقد صرح مرارا بأنه يمثل معسكر الخير أما معسكر الشر فتمثله إيران وسورية وكوريا الشمالية وفنزويلا ومن يقول له لا، وعندما أراد أن يذّكر العراقيين بأفضاله كان نصيبه الحذاء الشهير مصحوبا بالسب. والواضح أن الرجل يمثل مجموعات ضغط قوية وهو رغم أهمية منصبه مواطن مسكين لا يتخذ قرارات كبرى ودليلنا على ذلك التاريخ الأمريكي. فمغامرة خليج الخنازير التي ارتبطت باسم الرئيس كنيدي وقراره بغزو كوبا لم يكن قراره ولكن من صناعة سلفه العجوز العاقل والجنرال الناضج دوايت أيزنهاور وقام كنيدي بالتنفيذ، وإلى جانب عشرات الأمثلة، فإن القضايا التي تتحرك فيها الجيوش تعرف باسم "القضايا القومية" ولا قيمة لرأي الرئيس فيها. لذلك عندما يتحدث أوباما عن رأب الصدع وجمع الشمل فإنما هو يطلب هدنة يريدها ملوك الشركات العملاقة في مجال التسليح والطائرات والنفط وغيرها لذلك لم يفت الرجل أن يتحدث عن قيادة أمريكا للعالم . وهل هناك قيادة دون زجر أو ضغط أو تخويف؟ ولكن بوش يقول سنتعامل بالشراكة مع الحلفاء .. وهل كان بوش بعيدا عن حلفائه؟ إن أشهر تعبير اخترعه هو ووالده لتدمير العراق اختراع "قوات التحالف" ومثل علي جناح التبريزي كان هناك دائما تابعه "قفة" وكانت تاتشر وميجر وبلير وبراون جميعا "قفف" الرئيس الأمريكي.
وانظروا موقف أوباما من القوة: إننا نؤكد على التفاوض ونعتبر القوة آخر ملجأ". ومن قال إنها تستخدم دون مقدمات، سواء بإلقاء اتهامات كاذبة على غرار القوة النووية العراقية أو بالتخويف المباشر على منوال الذئب الذي يقول للحمل الواقف أسفل الغدير "لقد عكرت علي الماء" إلى آخر القصة.. ثم أكله. ويقول هواة التنبؤ السياسي والزج بالتكهنات إن العراق هي الخط الفاصل بين بوش وأوباما. لأن أوباما يعارض الحرب. وهل يعني هذا أن أوباما سينسحب؟ كلا - لأن الانسحاب يحدث فقط عندما ترى المؤسسة الحاكمة أن النزيف سيقتل المريض، وأن الثمن أكبر من العائد. فإذا كان التهام النفط وتخويف المنطقة وتمكين الحليف الأوحد هو العائد .. فلماذا الانسحاب؟ ونذكركم ببعض آراء أوباما: إن الحرب ضد العراق مبررة أخلاقيا!! ويقول في الوقت نفسه إن صدام لم يمثل تهديدا مباشرا، ونضيف له أنه كان ألد أعداء القاعدة ورجلهم في ضرب إيران. ولكن عدم تحقيق الحرب أهدافها هو محور الهم والغم وهو سبب لا دخل لأمريكا فيه وسيكون تصرف أوباما رد فعل وليس فعلا، ولا ننسى أن أوباما يعارض بشدة من يتحدث بلغة التهدئة أومن يتهمون أمريكا بأنها استعمارية باطشة.
وتفيد التقارير أنه في أعقاب الاتفاقية الأمنية (لها بروتوكولات سرية عديدة) ستبدأ أمريكا انسحابا "معنويا" تدريجيا - لإيهام العراقيين أن بلادهم تحررت، لكن النظام الحاكم في العراق بحاجة إلى المظلة الأمريكية كما أن أمريكا بحاجة جيوبوليتيكية شديدة للعراق، لمراقبة إيران وحماية إسرائيل واحتواء سورية.
ومن الممتع التأمل في تعبير "إن القوة الأمريكية ستكون بامتداد الأفق over the horizon"، وينوي أوباما أن يقوم بمفاوضات هدفها التوصل إلى إيقاف المقاومة عبر وإيران وسورية.
ويكرر أوباما بالحرف الواحد ما ورثه عن بوش حول " الحرب على الإرهاب" متجاهلا أن ما يجري الآن هي حروب تحرير ضد مستعمر سواء كان في أفغانستان أو العراق، وقد مرت أمريكا بتجربة حرب التحرير ضد بريطانيا التي احتلتها لستة وسبعين عاما (1701-1777). ولكنها تستفيد من الضجيج والمسميات الإعلامية لتحقيق أهداف أكبر. والمقال القادم حول أوباما وإيران".