عندما يتغير الطقس لا بد من تغيير الملابس (1)

ولد الانتصار المفاجئ للغرب بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وسقوط جدار برلين قبل نهاية القرن الـ 20، إحساسا لدى بعض المفكرين "بنهاية التاريخ". وقد علق حينها البرفيسور ليستر ثرو Lester Thurow أستاذ الاقتصاد في جامعة MIT في كتابه الشهير Head to Head الذي نشره عام 1992، على قول فوكوياما صاحب مقولة نهاية التاريخ قائلا: إن هذا رد انفعالي نابع من رغبة الشعوب المنتصرة في سرد روايات عظيمة حول كيفية إحراز هذا النصر. وأضاف: إن الحديث عن نهاية التاريخ يعني أن العالم سيتبنى النظام الأمريكي للأبد، وهذا غير صحيح, فالتاريخ بعيد كل البعد من النهاية، انتهى كلامه.
من ضمن الأسباب التي تدفع بالبعض لمثل هذه التصورات هو الخلط بين آليات الأنظمة الاقتصادية وفلسفتها. فآليات مثل السوق والملكية الفردية ليست هي النظام الرأسمالي وإن كانت من أدواته. النظام هو الفلسفة أو الإطار الذي يجمع هذه الأدوات ويضفي عليها حدود وطريقة عملها. فالرأسمالية ليس لها وجه واحد فهي في أمريكا غيرها في أوروبا أو اليابان. الرأسمالية الأمريكية تمنح حريات مطلقة للأسواق بلا ضوابط أو بضوابط محدودة ، كما هو الحال مثلا في طريقة تنظيم أسواقها المالية. ومن الواضح أنه لا يوجد أحد في العالم اليوم يرغب في تتبع خطى النموذج الأمريكي للرأسمالية على إطلاقه، ولا حتى بريطانيا شريكة أمريكا في المدرسة الأنجلوسكسونية. ولو لم تقم مختلف الحكومات في الدول الرأسمالية عبر التاريخ بمهمة الإنقاذ في أوقات الأزمات المتكررة لانتهت الرأسمالية منذ زمن بعيد. هذا على الرغم من أن التدخل هو إجراء مناقض لأصل فكرة الرأسمالية (دعه يعمل Laissez faire). وهذا ينطبق على الولايات المتحدة اليوم بكل ما قامت وتقوم به، وما ستقوم به في المستقبل القريب. البعض يتصور أن الحكومة الأمريكية لم تتدخل إلا في الظروف الراهنة، وهذا غير صحيح فهناك تاريخ طويل وحافل من حالات تدخل الحكومات الأمريكية في الاقتصاد، ابتداء من حالات الخوف والذعر والاحتيال المالي في القرن الـ 19 (كحالة South Sea Bubble, Tulip Mania) مرورا بالكساد العظيم عام 1929، وصولا لكساد اليوم، وبينهما حالات متفاوتة الحدة.
لا مراء أن للرأسمالية نجاحات بيد أن لها إخفاقات. فقد ساعدت الرأسمالية الدول المتقدمة على الإبداع والابتكار واستثمار المستوى العلمي والتقني الذي توصلت إليه لإنتاج سلع وخدمات عديدة ووفيرة. غير أنها – باعتراف روادها – تميل لخلق مستويات متفاوتة من الدخول لا تليق سياسيا بالحكومات الديمقراطية. كما أن فيها ميلا للانحراف، إما نحو عدم الاستقرار المالي بشكل دوري، وإما نحو الاحتكار. وهذا أمر مشاهد ومألوف ولا ينكره مفكرو الرأسمالية! ولذا فليس هناك ما هو أسخف من القول إن هذا هو النظام الذي سينتهي إليه العالم ويرضى به.
عندما تفشل النظم تغدو الحاجة إلى التغيير ملحة. لقد فشلت الشيوعية ولذا كان لا بد أن يتغير وضع تلك المناطق من العالم التي حكمتها الشيوعية، فالإخفاق يقتضي التغيير. وكذلك عندما يفشل النموذج الأمريكي يصبح التغيير أمرا لا مفر منه، وهذا ما سيحدث. فالعالم لا يريد ولن يسمح بتكرار المأساة الراهنة. النظام العالمي في حاجة لإصلاحات مهمة لكي يستعيد عافيته. وقناعتي هي أن العالم سيتوصل لهذه الإصلاحات, فالحياة ستستمر حتى يرث الله الأرض ومن عليها. بيد أن السؤال الذي بات يطرح داخل المجتمعات الرأسمالية نفسها هو: لماذا ما فتئنا ندفع هذا الثمن الباهظ بين حين وآخر: انهيارات وإفلاسات وتراجع في مستويات الإنتاج وضياع مدخرات وفقدان وظائف، على الرغم من أننا ما زلنا نحوز مستويات متقدمة من التقدم العلمي والتقني؟ وللحديث صلة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي