بناء جسور الثقة كمخرج من الأزمة المالية
مصائب كثيرة تصيب الدول عندما تقع أزمات مالية على غرار أزمة العام الحالي 2008. فالأزمة المالية الشديدة توجه ضربات في العظام لقدرة الدولة على الصمود والاستمرار وتهدد فرصها في تحقيق الأهداف القومية، ولعل أبرز ما نلمسه هو تلك القيود والتخفيضات على الأنظمة الدفاعية التي تتطلب البلايين. وهناك ما هو أهم .. وهو الحد من المرونة السياسية وإغلاق المداخل نحو بدائل متنوعة، وتقع الطامة الكبرى عندما يتعرض المصلحة العامة للخطر، وتتفشى الجرائم مع سلسلة طويلة من التداعيات الاجتماعية المرعبة. وهذا هو السبب في أهمية تصدي الحكومات وبأسرع ما يمكنها للقضاء على الأزمة أو على الأقل للتقليل من تأثيراتها السلبية. ولا يمكن أن نقنع بحلول سطحية تزيل الأعراض وتسكن الآلام، وإنما ينبغي العمل على إيجاد حلول جذرية ناجعة.
إن أزمة 2008 هي أزمة أمريكية خالصة، ويجمع خبراء الاقتصاد على أن التراخي في حلها سيحولها إلى كارثة ويصل بها إلى مستوى الكساد الكبير الذي وقع سنة 1929. وهو أشهر وأكبر وأخطر كارثة اقتصادية في التاريخ المعاصر. حيث بلغت معدلات البطالة في أمريكا معدلات راوحت بين 25 و30 في المائة وبلغت في ألمانيا 40 في المائة. وقد أدت هذه المصيبة إلى تداعيات اجتماعية وسياسية دفع العالم ثمنها غاليا. فقد صعد نجم النظم الفاشية وعلى رأسها النظام النازي، فقد تسنم هتلر رأس حزبه متدثرا بشعارات إيجاد فرص عمل والقضاء على فساد جمهورية فيمار، ونجح في انتخابات 1933 ليصبح مستشارا لألمانيا. وكان النظام الفاشي الإيطالي يرتع منذ 1922 تحت مظلة شعارات مماثلة، وزاد الإقبال على الأحزاب الشيوعية بصورة كبيرة.
ورغم أنه لا مجال لمقارنة الأزمة التي يمر بها العالم حاليا بالمحنة الاقتصادية سنة 1929، إلا أن المحصلة الأخيرة متشابهة. خاصة ما يتعلق بثقة الشعوب في أنظمتها المالية وممارساتها الاقتصادية، ومن ثم ثقتهم في الساسة الذين يديرون هذه الأنظمة أو يعجزون عن حل ألغازها.
وهناك أيضا عامل مشترك وهو أن كلتا الأزمتين لم تحدثا نتيجة لنشوب حرب أو وقوع كوارث طبيعية هائلة وإنما جاءتا نتيجة لتصرفات أجهزة وأنظمة داخلية فاسدة. ونعني هنا المؤسسات الأمريكية التي أسفرت سياساتها عن وقوع الأزمة. وعلى رأس الممارسات الفاسدة ما يلي:
أولا : منح قروض سخية ورهونات عالية لكل من تقدم لطلبها من العملاء، دون أن تتحرى البنوك الإجراءات التقليدية في توخي الحذر لدى منح الاعتمادات والحرص على تأمين الأموال.
ثانيا: أدى الحصول على رءوس أموال رخيصة إلى زيادة كبيرة في الطلب على العقار وعلى الأصول المالية والأموال السهلة.
ثالثا: الهوة الواسعة بين السلطة الإدارية والمؤسسات المالية، حيث لم تسارع الحكومة الأمريكية إلى استشعار الخطر واستشراف الحلول رغم المتاح لها من إمكانات وكوادر وخبرات وعلماء في هذا المجال.
إذ عندما انفجرت الفقاعة المحملة بالفساد انهارت البنوك وخسرت أعداد كبيرة من الناس مدخراتهم ودخولهم وفي حالات كثيرة فقدوا بيوتهم.
ومن المعتاد بالنسبة لهذا اللون من الأزمات أن يكون لها بُعدان: البعد المالي والأزمة الاقتصادية التي تأتي في أعقاب ذلك. ومن أخطار وأضرار الأزمة الاقتصادية ما يلي:
أولا : هبوط حاد في الإنتاج والاستثمار.
ثانيا: انهيار في معدلات الدخل القومي.
ثالثا: زيادة كبيرة في أرقام البطالة.
رابعا: انتشار متفاقم للفقر.
وهذه الأمور الأربعة تتطلب تغييرات جذرية بالنسبة لأية دولة تصيبها الأزمة في تحديد أولوياتها، بل يصل الأمر إلى ضرورة تعديل هذه الأولويات بقوة.
ونعود إلى بؤرة الأزمة وهي الولايات المتحدة التي لا تكف عن اتهام الآخرين بالفساد، وأثبتت الأزمة أن قلب وقالب الفساد قابع لديها هنا بما لا يمكن أن تفعله دولة فاسدة أخرى، ونظرا لضخامة اقتصادها فإن الانهيارات يكون لها وقع متعادل مع هذه الضخامة. فماذا حدث هناك ؟
لن نكرر ما عاشت وسائل الإعلام تتحدث عنه طوال الشهور الماضية ولكننا نقف بإيجاز أمام عدة محطات أبرزها:
أولا: أن الفاشل والراسب بجدارة كانت إدارات المؤسسات المالية، فقد تجمع عدد كبير من الضعفاء والفاسدين لإدارة البلايين.
ثانيا: أن الأزمة بدأت عام 2007 عندما بدأت المؤسسات المالية الإعلان تلميحا وليس تصريحا ودون أي قدر من الشفافية عن خسائر تجشمتها بلغت تريليون دولار.
ثالثا: كان السبب في حدوث هذه الخسائر هو تسويق منتجات مالية قائمة على الرهونات المقدمة لمقترضين في درجة المخاطر العالية دون ضمان.
رابعا: زادت شركات التأمين المشكلة بتأمين المقترضين.
خامسا: حصل المديرون على الأرباح والرواتب والمكافآت العالية أثناء الضغط على المدنيين فأنهار كل شيء.