التراث وصناعة الحاضر

كل شيء يكون حديثاً طالما يواكب عصره، وحالما يمضي عصره يصبح قديماً، ولذلك العالم يتجدد مع التقدم ليحدث نفسه ويقدم مع ما يتناسب مع هذا الجيل الحالي.
في نقاش حول كتب التراث والمفكرين القدماء، تساءل أحدهم من جدوى قراءتناا القديم بينما لو نظرنا إلى كثيرا منه سنجد أن من بعده هناك كثيرا من التصحيحات التي جرت عليه لتغير الفكر أو تطور العلم، ورغم ذلك لم نكتفِ بالجديد ومازلنا نفتش في القديم.
وقفت طويلاً قبل أن أجيب عن هذا السؤال، فوجدت أخيراً أننا نستفيد من تجاربهم أكثر من كوننا نستفيد من أفكارهم، فمثلاً عندما نقرأ أفكار نيتشة ليس بالضرورة ألا نقرأ سوى الأفكار التي ثبتت الآن صحتها، بإمكاننا حتى قراءة الخاطئة لأننا سنستفيد من تجربة نيتشة، خاصة وأنهم لا يخرجون بهذه النظريات عبثاً، بل بعد دراسة وبحث وتأمل.
ولكن، هل خرج المفكرون الجدد عن القدماء؟ هل نرى تجديداً للأفكار والنظريات؟ ستأتي إجابة هذا السؤال محبطة إن جردنا التجارب الحديثة عن القديمة، ولكن سنجد أن الحديثة في هذا تستند في بنيتها إلى القديمة، فنجد أحياناً وعلى الرغم من كون هناك فارق كبير بين السنوات التي طبع فيها كتاب حديث وآخر قديم وأن الحديث تطرق إلى نظريات وآراء حديثة فإنه لا يتخلى عن الإشارة أو الاقتباس لما كتب قديماً، وليس على سبيل التصحيح دائماً!
عندما نتحدث عن حركة الفكر قديماً وحركتها حديثاً سنجد أن هناك فرقاً شكلته البيئة على الوجه الأغلب، فقديماً الأحداث التي تدور حولهم من سياسية واجتماعية كانت تستدعي منهم مثلاً أن يحللوا الأوضاع ويقرؤونها أو يبحثون فيها، هذا إضافة إلى كون حركة النشر في ذلك الوقت قليلة جداً (حتى إن بعضهم لم ينشر بل قام طلابهم بنشر ما كتبوه بعد وفاتهم)، فبالتالي لم يكن يخرج أي كتب أو ينشر إلا بعد جهد في البحث فيه، بينما الآن ومع توسع حركة النشر أصبح الهم في العمق لا يشكل فرقاً في الأحداث.
لا تتوقف أهميتها فقط عند الاستفادة من التجارب فقط، بل حتى التأريخ، فليس من المعقول مثلاً أن يأتي أحدهم ويكتب عن فكر معين أو ينتقده دون أن يبحث في تاريخه، نشأته، أسبابه ظهوره، وغيرها من البنيات الأساسية قبل الشروع في الكتابة عنه، ولو أهمل التاريخ لظل كل تجديد ينسف ما سبقه حتى نصل إلى حد قد لا نجد فيه العمق الفكري الذي نحتاج إليه، خاصة وأن العالم وهو يتجدد ويتقدم فهو يتراجع في التجارب، خاصة إذا ما عدنا إلى موضوع البيئتين الفكريتين المختلفتين.
إذاً فالتراث هو ما صنع الحاضر، ولا يمكن التخلي عنه، وسيظل يصنعه كلما تقدم حتى لو لم يتوافق وأفكاره، يكفي أن يكون تاريخه!.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي