الدولار والسياسات الحمائية

هناك عاصفة في الأسواق المالية بسبب القرارات الحمائية لإدارة ترمب وما تبعها من حراك مضاد من الصين. السبب الظاهر أن أمريكا تعاني عجزا تجاريا مزمنا منذ الخمسينيات بداية مع ألمانيا واليابان ليمتد لاحقا لنمور آسيا والمكسيك، إلى أن وصلنا للصين بحجمها المؤثر نوعيا. ولكن بعيدا عن العنوان والسياسة خاصة بتجلياتها الشعبوية، فإن السبب الرئيس في "تشوه" الحالة الأمريكية هيكلي وذلك من خلال دور الدولار المركزي في النظام المالي العالمي.
لابد من الرجوع إلى التاريخ كي نفهم المرحلة الحالية. فقبل الحرب العالمية الأولى كان الذهب معيارا أساسا ما أتاح درجة من الاستقلال كعملة مالية مقبولة. ولكن هذا النظام سقط بين الحربين جزئيا بسبب عدم المرونة في دوره كعملة إلى أن جاءت اتفاقية بريتون وود بعد الحرب الثانية وأقرت مركزية الدولار مغطى بالذهب بسعر ثابت. أصبح الدولار عملة الرصيد الدولية وثبتت أغلب العملات مقابله. ولكن هذا النظام أصبح غير قادر على الاستقرار بسبب تنامي الطلب على الدولار في ظل تحقيق كثير من الدول نموا مطردا وبالتالي عدم قدرة أمريكا على توفير الغطاء الكافي من الذهب، إلى أن قررت إدارة نكسون كسر الربط وتعويم الدولار في 1971. كان الأمل أن ينخفض الدولار مقابل الين والمارك الألماني ولكن العكس حدث.
فحين تخلصت أمريكا من قيد الربط مع الذهب مارست سياسة توسعية مالية حيث زاد العجز في الميزانية تباعا، هذه الزيادة قابلها من خلال حسابات الدخل الوطني عجز تجاري. مركزية الدولار وخوف كثير من هذه الدول من التذبذبات جعلها تراكم احتياطيات بالدولار، فارتفعت الاحتياطيات بالدولار من 500 مليار في 1973 إلى 11 تريليونا في 2017، فنحو ثلثي الاحتياطيات بالدولار. مركزية الدولار مكنت أمريكا من الاقتراض بفوائد أقل. هذه الحالة (عجز في الميزانية وعجز تجاري أصبحت تغذي بعضها) لتصبح صادرات أمريكا أغلى ووارداتها أرخص بغض النظر عن الممارسات التجارية.
يصعب على الشركات الأمريكية التوسع في الصناعة بهذه الحالة. حدث تخفيف في التأثير بسبب الصناعة المعلوماتية والتعليم والخدمات المالية (ارتفعت الصناعة المالية من 2 في المائة من الدخل القومي الإجمالي إلى 9 في المائة)، ولكنها ليست بديلا عن الصناعات الأخرى. لذلك تجد السياسات الحمائية مركزة أكثر على الدول التصنيعية مثل المكسيك والصين وألمانيا.
لذلك هناك إشكالية هيكلية حلها بإصلاح نظام النقد العالمي خاصة بعد تصاعد دول مؤثرة اقتصاديا ولم تعد أمريكا اللاعب الأوحد على الرغم من أنها ما زالت أكبر اقتصاد، ولكن الخريطة الاقتصادية تغيرت جذريا. شهد العالم هذه الحالة من الحاجة للتغيير أثناء التحول من مركزية الجنية الاسترليني إلى الدولار ولكن بطريقة مختلفة لذلك حانت لحظة تاريخية. لعل الدول الصغيرة نسبيا في خريطة التجارة العالمية مثل المملكة تجد فرصة جديدة لحماية انتقائية لدعم الصناعات الوطنية، ولكن هذا مكفول أيضا بمدى التحالفات التي نعمل عليها، وبفعالية المنافسة داخليا لأن المنافسة داخليا تعدنا للمنافسة خارجيا. هذا التوازن بين التحالفات والمنافسة والنهج الصناعي يحتاج إلى عمل ممنهج ودؤوب.

المزيد من الرأي