الاستثمار الزراعي في السودان (1 من 2)
بعد استنزافنا الجائر لثروتنا المائية النادرة في زراعة القمح محليا، وعلى أثر ارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية لمستويات قياسية خلال العام الجاري، انطلقت دعوات محلية واهتمامات رسمية، بتشجيع الاستثمارات الزراعية في الخارج. وكنت قد كتبت في بداية جمادى الأولى حزيران (يونيو) الماضي ثلاثة مقالات متتابعة عن هذه الأزمة أيدت فيها توسيع استثماراتنا الزراعية في الخارج، ومنها التعاون مع السودان الشقيق. وبينت أنه يمكن للحكومة السعودية مساعدة المستثمرين السعوديين في ثلاثة أمور: الأول وضع مظلة رسمية للاستثمارات الزراعية السعودية في الخارج، من خلال عقد اتفاقات رسمية مع الحكومة السودانية لضمان استقرار حقوق المستثمرين. والثاني مساعدة المستثمرين بمنحهم قروضا بشروط ميسرة. أما الثالث فهو أن تسهم الحكومة في تكاليف إنشاء البنى التحتية اللازمة لنجاح هذه المشاريع. مع أن بعضها يمكن للقطاع الخاص تبني إنشاءه وفق عقود البناء والتشغيل ثم إعادة التمليك B.O.T، مثل مشروع الطريق الدولي الذي اقترحه الشيخ صالح كامل على الحكومة السنغالية ليسير بمحاذاة نهر السنغال ويربط بين دكار ونواكشوط في موريتانيا.
إن إحياء التعاون الزراعي العربي ينسجم تماما مع إعلان الرياض الذي سبق أن أطلقه مجلس وزراء الزراعة العرب، الذي عقد في الرياض في نيسان (أبريل) الماضي، لتعزيز التعاون الزراعي العربي لمواجهة أزمة الغذاء العالمية، وهو خيار استراتيجي مهم، نتمنى أن يقدر المسؤولون في جميع الدول العربية قيمته وأهمية حق التقدير.
وفي الآونة الأخيرة نشطت تحركات من جانب الحكومة والقطاع الخاص، فقام وزيرا الزراعة والتجارة مع بعض المهتمين من رجال الأعمال بزيارة السودان. ثم جاءنا في الأسبوع الماضي وفد سوداني كبير مكون من عدد من الوزراء وكبار المسؤولين الاقتصاديين برئاسة وزير المالية السوداني، وعقدوا لقاءين مع رجال الأعمال في كل من الرياض وجدة.
بعض المستثمرين السعوديين كانت لهم تجارب غير مشجعة في السودان. وفي غرفة جدة ناقشوا مع الوفد الزائر بعضا من هذه الصعوبات القانونية والتنظيمية والإدارية. ومنها تقلب السياسات الاستثمارية، وعدم وضوح الإجراءات المتعلقة بكيفية استغلال وحيازة الأراضي الزراعية، وتعدد الضرائب والدمغات، والتضارب أحيانا بين سياسات الحكومة المركزية وسياسات حكومات الولايات، وحاجة المستثمرين إلى قانون لضمان الاستثمار، وتواضع خدمات البنى التحتية. بيد أن رئيس الوفد السوداني أكد للجميع أن هناك رغبة جادة على أعلى المستويات لتذليل هذه الصعوبات، وأن هناك عزما على تحسين وإصلاح كثير مما يشتكي منه المستثمرون، وحثهم على سرعة استغلال الفرص والموارد التي يزخر بها السودان.
والحقيقة أن الأمر لا يتوقف فقط على النيات الحسنة والمزايا المغرية. فجذب الاستثمارات في أي مكان في العالم يتطلب استعدادات وإصلاحات مسبقة، تكون واضحة للجميع وتعمل بشكل مؤسساتي ولا تنتظر تدخلا بين حين وآخر من مسؤول. ليس هناك من يشك في المزايا النسبية التي توفرها الأراضي السودانية لأي نشاط زراعي. ولكن هذه المزايا لن يكون لها فائدة إذا لم تواكبها بيئة استثمارية ونظامية وسياسية كافية لجذب المستثمرين وطمأنتهم. فتصرف غير مسؤول من موظف في إحدى الولايات السودانية يمكن أن يقلب دراسة جدوى المشروع رأسا على عقب، ويؤدي إلى فشله. ومكمن الخطورة أنه متى ما خرج مستثمر ما من البلاد فمن الصعب أن يعود ثانية مهما تحسنت الأمور، خاصة إذا كان البديل جيدا.
السودان وأهل السودان من أحب الناس لقلوب السعوديين، ولو كان لي من الأمر شيء لنصحت الإخوة في السودان، أن يضعوا تجربة دبي نصب أعينهم ولا يترددوا في الاستعانة ببيوت الخبرة التي تدلهم على كيفية تغيير وتحسين بيئة الاستثمار من أجل الانطلاق بالاقتصاد السوداني نحو آفاق أرحب وأفضل. خاصة بعد توصلهم لاتفاقيات السلام المحلي، التي نأمل أن تحقق لهذا البلد الشقيق الاستقرار المنشود. وللحديث صلة.