مواطن يفطر على الماء أولى من غيره بما ينفق على موائد التفطير!
عندما كتبت مقالي الأسبوع الماضي عن موائد تفطير الصائمين في المدن، وإذا ما كانت قد بلغت هدفها، كنت أهدف إلى تسليط الضوء على الجوانب السلبية المصاحبة لهذه العادة الحسنة، والمتمثلة في المبالغة والإسراف، والحط من قدر النعمة، بإلقائها في أوعية المخلفات، وعدم الاجتهاد في تحري من هو أحوج إليها، واعتقدت أن ما أثرته كان كافيا، خاصة وقد أوكلت مهمة استكمال بحثه إلى من يعنيهم الأمر من النواحي الدينية والاجتماعية والرسمية، أملا في تنقيته مما يشوبه، ورغبة في تحري الصواب، ومضاعفة الأجر والثواب! .. بيد أنه في ضوء التعقيبات والتعليقات التي وصلتني لم أجد بداً من استكمال الكتابة عن الجوانب الباقية من الموضوع:
يرى بعض الإخوة أن المفهوم من الحديث الشريف (من فطر صائماً فله مثل أجره، من غير أن ينقص من أجر الصائم شيئاً) هو التفطير في حد ذاته، بصرف النظر عن قيام الحاجة من عدمها، وأقول إن الله قد منح الإنسان عقلا يفكر به، ويميز بين الأمور ليعرف أفضلها، وأن النفقات التي تصرف في هذا السبيل لا تخرج عن كونها إما تبرعا يقصد به الصدقة وإما زكاة وكلا الأمرين مطلوب فيهما البحث عمن هو أكثر حاجة، وقد تواترت الدلائل على أن هناك من المواطنين من هو أكثر حاجة ممن يجري تفطيرهم من العمالة، لأن العامل يتسلم أجراً ثابتا في نهاية كل شهر في حين أن هناك من المواطنين فئات عاجزة عن العمل، أو لا يوجد لهم دخل ثابت كل شهر.
وما نشاهده من التسابق على فعل الخير، بإقامة ولائم الإفطار، ومنها ما يجري من توزيع للوجبات عند الإشارات قبيل الإفطار، هو أمر محمود، لكن إذا تجاوز حده، ووصل على إلقاء جزء كبير من الأطعمة، وليس الفضلات، في أوعية المخلفات، أو حصار أصحاب السيارات عند الإشارات، ومحاولة إلزامهم بأخذ الوجبة أو القذف بها في السيارة، فهو أمر يخرج عن المقصد الشريف منه، وربما يؤدي بالمتبرع إلى اقتراف الإثم من حيث يقصد البر، بخاصة إذا كان يعلم أن ثمة من هو أحوج إلى ما لا يؤكل مما يوزع، ولا يقوم بإيصاله إليهم.
تعالوا نستعرض ما نشرته صحيفة "الرياض" في عددها الصادر قبل ثلاثة أيام (فقط) أي في الحادي عشر من رمضان، عن الوضع الباعث على الشفقة لبعض الفئات من المواطنين، لعل هذا يوقظ الإحساس في نفوس الناس، وخاصة الموسرين منهم، وحتى غير الموسرين الذين يحبون فعل الخير، أو الذين تجب عليهم الزكاة، والتي ذكر إمام الجامع القريب من سكني في خطبة الجمعة الماضية، أن نصابها (500) ريال فقط، وهل يوجد من لا يملك هذا المبلغ في المدن اليوم، فحتى الطفل يملكه، لكن دعونا نستعرض ما قصدت:
ـ أشار محافظ الليث، علي الفقيه، إلى أن أغلب الأهالي يفطرون على الماء والدقيق وحليب الماعز، حيث يقتاتون من المواشي مأكلاً ومشربا، في منطقة معزولة، تشمل قرى: جدم، بنى يزيد، المرقبان، ربوع العين، يلملم، بيرين، الرياحين، مهبا، شال، تيثان، أمول، القاع، قطنه، الأقصر، جمه، ومنسي.
ـ قال الشيخ مساعد الفهمي، إمام جامع قرية بيرين في الليث, إن الأهالي يعيشون على الدقيق والماء, وإن مشاريع الإسكان المنفذة لا تغطي أكثر من 5 في المائة من حاجة السكان, وإن هناك أكثر من عشرة آلاف محتاج يتخذ معظمهم من ظل الأشجار والكهوف وبيوت الشعر والصفيح والصنادق مساكن لهم.
ـ ذكر بندر الجودي رئيس مركز بني يزيد, أن الجمعية الخيرية في المركز تعاني قلة في المواد الغذائية, وأن عدد المحتاجين إلى المساعدة من الأسر الفقيرة والمحتاجة كبير للغاية.
ـ يقول ناجي الزبيدي, مدير جمعية البر الخيرية في الليث, إن المحتاجين من الفقراء والأرامل والأيتام والأسر المتعففة يفطرون على الماء والدقيق, مؤكدا أنهم في أمس الحاجة إلى التمر ولقمة الإفطار, وأن جمعيات خيرية أخرى اطلعت على أوضاع الفقراء وتبين لها أنهم يعيشون تحت خط الفقر.
ـ بين ضيف الله الفهمي رئيس جمعية جدم الخيرية أن الفقراء في قرى مركز جدم يعتمدون على الفحم والحطب والأغنام.
ـ قال مستور العيافي, رئيس مركز جدم, إن أكثر من خمسة آلاف نسمة يفطرون على الماء والدقيق وحليب الغنم، وسكنهم في صنادق حارة وليس لديهم كهرباء ولا ماء بارد, ولا طرق ولا هاتف ولا مراكز صحية, وأضاف أن فرقا من وزارة الشؤون الاجتماعية زارت المركز قبل سنوات, لبحث إنشاء مساكن للمحتاجين, وتم تخصيص بعض الأراضي التي تبرع بها أصحابها, ولكن هذه الفرق لم تأت بعد ذلك.
ـ أوضحت الأرملة حسينة الفهمي أنها تسكن في بيت شعر وتعيش على الدقيق والماء واللبن, وتقول "لقد سئمت الحياة من العوز والفقر وضيق الحال", وتشير إلى أن لجان حصر منازل الصفيح التي جالت على قراهم اختفت دون تقديم شيء.
ـ ناشدت العجوز مخضرة الفهمي أهل الخير والمحسنين تأمين لقمة الإفطار لها, وقالت إنها تسكن في كهف و(أناشد أهل الخير المساعدة على بناء غرفة, ولم تقل بيتا, تحميني من حرارة الشمس الحارقة في هذه السن).
وبعد .. هذه أقوال تنبئ عن الأحوال, وكلها موثقة, وليس فيها شيء من عندي, وعلى من يريد الخير ألا يكل الأمر إلى مطعم يمد الموائد في أكثر الأحياء ترفا في المدن, بل يجتهد في إيصال القيمة "نقودا" إلى جمعيات البر الخيرية المنتشرة في تلك الأماكن, وهذا من أيسر السبل. والله من وراء القصد.