العمل الحكومي بين التضخم والهجرة
العمل الحكومي من الأعمال التي تؤثر بشكل مباشر وقوي في جميع الأعمال الأخرى في كل دول العالم وتأثيره في الدول الناشئة أو دول العالم الثالث أكثر تأثيرا وتدميرا متى خرج عن مساره الصحيح للعمل, ولهذا فإن الحديث الدائم والمستمر عن أهمية إصلاح المؤسسة الحكومية في الدول النامية أصبح حديثا يحمل عديدا من الرسائل التنموية المهمة, خصوصا عندما يعيش العالم أزمات تنموية وإدارية مختلفة مما يتطلب معه العودة إلى الاهتمام بالمؤسسة الحكومية وتطويرها بما يضمن تقديمها أفضل الحلول التنموية لبناء دولها, هذا الاهتمام يتأكد اليوم بشكل ضروري ومهم في السعودية لأننا نحاول أن نخرج من شرنقة الدول المتخلفة والانتقال إلى دول العالم المتقدم أو العالم الأول, هذا الاهتمام والرغبة الصادقة في الانتقال يتطلبان منا مراجعة المؤسسة الحكومية وجميع أجهزتها المدنية والعسكرية والتأكد أنها تتواكب وهذه الرغبة التنموية الإدارية الصادقة.
المؤسسة الحكومية تعاني عديدا من العلل الصحية التي تقف عثرة في سبيل تطويرها وجعلها أجهزة تعمل وفقا للنظرية الإدارية الحديثة التي تعتمد التطوير والتحديث معيارا لها, وتؤكد أهمية الجودة كوسيلة للتأكد من حسن العطاء والإنجاز, ولعل الإشارة إلى مفصلتين مهمتين في هذا المجال توضح لنا أهمية تشخيص الحالة المرضية لبعض المؤسسات الحكومية وتقديم الحلول الناجحة لها, ما يمكن تشخيصه في هذا المساحة هما مرضان غريبان ومتناقضان, تضخم الأجهزة الحكومة بعدد الموظفين واستقطاع هؤلاء الموظفين نسبة يقال إنها تتجاوز 80 في المائة من ميزانية الحكومة كرواتب تمنح لهم شهريا, وفي المقابل هناك هجرة عالية للكفاءات السعودية من الأجهزة الحكومية للقطاع الخاص أو إلى خارج البلد, وبعض تلك الكفاءات التي لم تهجر القطاع الحكومي لجأت إلى ما يسمى البيات الشتوي أو الانطواء وتقديم القليل جدا من العطاء والعمل.
المعضلة الأولى, كما ذكرت, هي تضخم الأجهزة الحكومية بعدد كبير جدا جدا من الموظفين, بحيث تؤكد المعلومات أنهم يستنزفون أكثر من 80 في المائة من الميزانية السنوية للدولة, ولهذا فإن الزملاء في وزارة المالية يجدون صعوبة في الموافقة على إحداث أي وظائف جديدة, هذه الوظائف الجديدة التي يطالب بها مختلف المؤسسات الحكومية المدنية والعسكرية, وعديد من المسؤولين في تلك المؤسسات يؤكدون أنهم لا يعملون إلا بأقل من 50 في المائة من طاقتهم البشرية, ولهذا السبب يعزون تأخر العمل والمعاملات والقضايا بسبب قلة العاملين في الأجهزة التي يشرفون عليها أو أن العدد كبير ولكن العطاء صغير لأسباب عديدة يذكرها عديد منهم بصوت منخفض حتى لا يحسب عليه ما يقول, ومن تلك الأسباب التي نلمسها جميعا ما هو حقيقي ومنها ما هو وهمي, ولعل المتابع لبعض تلك الأسباب يجد فيها شيئا من المصداقية, ومنها أن هناك عددا ليس بالقليل ويتجاوز نسبا عالية لموظفين يتسلمون رواتبهم من بعض المؤسسات الحكومية ولكنهم في الحقيقة غير موجودين على رأس العمل لأسباب عديدة لا أجد لأغلبها أي مبرر سوى سوء الإدارة والمتابعة, وبعضهم ما زالت أسماؤهم على قوائم الرواتب وهم ربما ليسوا أحياء. ثم هناك نوع آخر من الموظفين المفرغين لأعمال لا تتطلب تفرغهم ومع ذلك محسوبون موظفين كاملي العطاء, وعطاء الواحد منهم لا يتجاوز نسبة 5 في المائة. ونوع ثالث ينظر إلى العمل في المؤسسة الحكومية على أنه ضمان اجتماعي, ولهذا فإن عطاءه لا يتجاوز الحضور والانصراف دون تقديم ما يشفع له للبقاء في وظيفته, ومع ذلك لا يستطيع أي مسؤول أن يفصله من العمل لأن الأنظمة تحميه ولا تطالبه بأكثر من الحضور والانصراف في المواعيد المحددة.
إن المتأمل هذا التناقض الوظيفي الغريب ليستغرب كيف يمكن لبعض الأجهزة الحكومية أن تقدم ما هو مأمول منها وهي ترزح تحت مظلة مثل هذا العمل المزدوج, "غزارة في عدد الموظفين وسوء في التوزيع", بمعنى استنزاف الموارد المالية الوطنية على شكل رواتب ونقص حاد في المخرجات العملية وشكوى من نقص في عدد الموظفين في بعض تلك الأجهزة, وهذا النقص حقيقي في بعض البعض, ولهذا فإن المطلوب هو مراجعة شاملة لجميع العاملين في المؤسسة الحكومية وجميع أجهزتها للتأكد من أن ما يصرف من مبالغ طائلة توجه وجهتها الصحيحة, لأننا, وكما نعرف مع هذا الصرف العالي على الرواتب, هناك هجرة من القطاع الحكومي للكفاءات المتميزة وذهابها إلى القطاع الخاص أو للعمل خارج المملكة, خصوصا دول الخليج, وهذه هي المعضلة الثانية.
إن هجرة الكفاءات السعودية من القطاع الحكومي أو عزوفها عن العمل فيه أصبح واضحا لمن يهتم بهذا الشأن ويفتح القلب والعقل والعين له, وأصبح البحث عن كفاءات للعمل في الأجهزة الحكومية كمن يبحث عن إبرة في محيط من القش مترامي الأطراف, ويعزوا عديد من تلك الكفاءات رفضها العمل في المؤسسة الحكومية إلى تدني الأجور وانتشار الفساد الإداري المباشر وغير المباشر, ويؤكد عديد منهم أن الرواتب في القطاع الحكومي لا تستطيع أن تغطي المصروفات الأساسية لهم, خصوصا أن أغلبهم ممن يتعلم أبناؤهم في المدارس الخاصة ويعالجون في المستشفيات الخاصة دون تأمين صحي حكومي والتزاماتهم العائلية والأسرية والعملية والوظيفية عالية, ما يضع عليهم ضغوطا مالية لا تستطيع الرواتب الحكومية تغطيتها, ما يدفعهم وبسبب ذلك إلى العمل خارج المؤسسة الحكومية. هذا العزوف والهجرة يعتبران من المؤثرات السلبية على تطوير المؤسسة الحكومية والانتقال بها نحو الأفضل.
إذا المعادلة غريبة صرف حكومي عال جدا على الرواتب للموظفين الحكوميين وفي الوقت نفسه عطاء قليل جدا وهجرة وعزوف للكفاءات للعمل في هذا القطاع, هذا الأمر يتطلب دراسة موضوعية حقيقية لمعالجة الخلل الإداري التنموي, مع تأكيد أننا في السعودية سنبقى ولفترة طويلة جدا معتمدين على القطاع الحكومي لتسيير كثير من أعمالنا ومشاريعنا, وأن هذا القطاع سيؤثر بشكل سلبي في أداء وعمل القطاعات الأخرى, خصوصا القطاع الخاص, الذي نعول عليه كثيرا للمساعدة على إنهاء هذا التخلف, ولهذا فإن الأمر يتطلب نظرة فاحصة لشيخوخة المؤسسة الحكومية وترهلها وتخلفها بما يضمن تحقيق التقدم والرقي بها إذا أردنا الانتقال نحو العالم الأول. والله من وراء القصد.
وقفة تأمل :
الناس جار في الحياة لغاية
ومضلل يجري بغير عنان
الخلد في الدنيا وليس بهين
عليا المراتب لم تتح لجبان
فلو أن رسل الله قد جبنوا لما
ماتوا على دين من الأديان
المجد والشرف الرفيع صحيفة
جعلت لها الأخلاق كالعنوان
دقات قلب المرء قائلة له
إن الحياة دقائق وثوان
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها
فالذكر للإنسان عمر ثان