اجتماع جدة للطاقة في الميزان (4)
باستقراء البيان الختامي لاجتماع جدة للطاقة نلاحظ ما يلي:
أولا: إن صياغة البيان تمت بعبارات عامة لا تنطوي على أي التزام على أي طرف من الأطراف وتنم عن استمرار الخلافات بين البلدان المصدرة والمستوردة للنفط حول العديد من المسائل المتعلقة بصناعة وتجارة النفط وعلى رأسها الأسباب الحقيقية لارتفاع أسعار النفط ومع ذلك يمكن القول إن اجتماع جدة للطاقة يعد خطوة متقدمة في سبيل تعميق الحوار بين الدول المصدرة والدول المستوردة للنفط بهدف تأسيس آلية للتشاور والتعاون بين الطرفين من أجل تحقيق الاستقرار في أسواق النفط على نحو يتضمن تأمين إمدادات كافية للمستهلكين مقابل سعر عادل يأخذ في الاعتبار أن النفط سلعة استراتيجية ناضبة وأن اقتصادات الدول المصدرة تعتمد اعتمادا رئيسيا على العوائد التي تجنيها من بيع النفط الخام.
ثانيا: لقد أقر المشاركون في الاجتماع في بيانهم الختامي أن ارتفاع أسعار النفط وتذبذبها المستمر هو نتيجة لمجموعة من العوامل والأسباب. وهذا الإقرار وإن كان لم يحدد هذه العوامل والأسباب بصورة واضحة وقاطعة إلا أنه يدحض الادعاء الأمريكي ـ البريطاني أن سبب ارتفاع الأسعار يرجع إلى عدم قيام الدول المصدرة للبترول بزيادة الإنتاج، ولعل مما يزيد بطلان الادعاء الأمريكي ـ البريطاني تأكيدا أن الوكالة الدولية للطاقة سبق أن ذكرت في تقريرها الشهري الصادر في آيار (مايو) 2008، أن إمدادات النفط كافية، وأن السبب الرئيس وراء الزيادة الكبيرة في أسعار النفط هو محاولة الدول الصناعية تأمين نفط كاف في مخزونها إلى جانب تلبية الطلب الاستهلاكي, بل أشار التقرير إلى معلومات تؤكد حصول فائض في سوق النفط خلال الشهرين الماضيين وتوقع استمرار هذا الفائض طوال عام 2008، إذا حافظت منظمة "أوبك" على المستوى ذاته من الإنتاج. ومن ناحية أخرى فعلى الرغم من أن الثابت أن للضرائب دورا في ارتفاع أسعار الوقود بالنسبة للمستهلك في الدول الصناعية إلا أن بعض هذه الدول ومنها بريطانيا تعتبر الضرائب على الوقود مسألة داخلية ترتبط بسيادة الدولة ولا تجوز مناقشتها ولكنها تعطي لنفسها الحق في التدخل في سياسات الإنتاج التي تتبعها الدول المصدرة للنفط على الرغم من أن هذه السياسات تعتبر أيضا من حقوق السيادة الوطنية، ويعطي هذا المثال نموذجا لسياسة الكيل بمكيالين التي تتبعها الدول الغربية في العلاقات الدولية.
ثالثا: خلا البيان من الإشارة إلى أن التعاون بين الدول المصدرة والدول المستوردة للنفط يجب ألا ينحصر فقط في حالة ارتفاع الأسعار بل يجب أن يكون أيضا في حالة انخفاضها بشكل ضار بالدول المصدرة للنفط. ولقد علمتنا دروس الماضي أن الدول الصناعية الرئيسة المستوردة للنفط لا تكترث بمصالح الدول المصدرة إذا انخفضت الأسعار بل تعترض على أي تدخل من شأنه إيقاف هذا الانخفاض بذريعة أن ذلك يتعارض مع آلية العرض والطلب.
رابعا: خلا البيان من الإشارة إلى أهمية قيام الدول المستهلكة للنفط والتي تملك احتياطيات نفطية كبيرة غير مستغلة مثل الولايات المتحدة أن تزيد من إنتاجها النفطي وتشارك في إمداد الأسواق بكميات وفيرة من شأنها المساعدة في كبح ارتفاع الأسعار.
خامسا: خلال البيان من الإشارة إلى أهمية التأكيد على المبدأ المستقر في القانون الدولي العام وهو سيادة الدول والشعوب على مواردها الطبيعية وفي مقدمتها النفط والتنبيه إلى خطورة اتجاهات السلطات التشريعية في بعض الدول إلى إصدار قوانين تخالف المبدأ المذكور وغيره من مبادئ القانون الدولي، بهدف إخضاع الدول المصدرة للنفط ومنظمة أوبك للقوانين المحلية الخاصة، بمكافحة الاحتكار مثل مشروع القانون المعروض على الكونجرس الأمريكي الخاص بمقاضاة "أوبك" والدول الأعضاء أمام المحاكم الأمريكية بذريعة سيطرتها على إنتاج وأسعار النفط، إذ لا يمكن قيام تعاون حقيقي ومثمر بين المصدرين والمستوردين للنفط في ظل التهديد بقوانين غير مشروعة تستهدف التعدي على حقوق السيادة الوطنية للدول المصدرة للنفط.
سادسا: من المعروف أن الدول الصناعية الرئيسة المستوردة للنفط تسعى إلى إعادة دوران مليارات الدولارات من إيرادات النفط من الدول المصدرة وإعادتها إلى الدول المستهلكة ومع ذلك يثور لغط كبير في الدول الغربية حول صناديق الثروة السيادية، وخصوصا التابعة لحكومات الدول المصدرة للنفط، يهدف إلى إثارة المخاوف من دورها في الاقتصادات الغربية، وهو أمر يدعو إلى التوجس خيفة من نوايا الدول الغربية حيال استثمارات الدول النفطية، ولقد كان من المفيد لو أصرت الدول المصدرة للنفط أن يتضمن البيان الإشارة إلى أهمية إعداد اتفاقية جماعية دولية تبرم بين الدول المصدرة والمستوردة للنفط تحت رعاية هيئة الأمم المتحدة تمنع منعا قطعيا تجميد أو مصادرة الودائع والأموال التي تستثمرها حكومات الدول المصدرة للنفط في الدول المستوردة تحت أي ذريعة سياسية أو غير سياسية، إذ لا يستقيم في منطق العقل ولا في قسطاس العدل مطالبة الدول المصدرة للنفط زيادة إنتاجها بأكثر مما تحتاج إليه متطلبات شعوبها وعلى نحو قد يؤدي إلى استنزاف مواردها النفطية في سبيل تلبية احتياجات الدول الصناعية المستهلكة للنفط ثم تكون مدخرات الدول المصدرة واستثماراتها من عائداتها النفطية عرضة للتجميد والمصادرة والاستيلاء بذرائع مختلفة، فهذه المدخرات والاستثمارات يجب أن تكون محصنة ضد هذه الإجراءات التعسفية.
سابعا: أشار البيان بطريقة غير مباشرة إلى دور المضاربين في ارتفاع أسعار النفط حيث نص على (ضرورة تحسين حالة الشفافية في الأسواق المالية والتشريعات المتعلقة بها عبر العديد من الإجراءات التي تهدف إلى إتاحة المعلومات والبيانات الخاصة بأنشطة مؤشرات الصناديق المالية ومن أجل التعرف على التعاملات البينية وتداخلها بين الأسواق البترولية الآجلة).
ثامنا: من غرائب المقترحات دعوة رئيس الوزراء البريطاني دول "أوبك" إلى الاستثمار في بلاده في بدائل الطاقة، وقد سخر بعض المعلقين من هذه الدعوة لأنها تنطوي على مطالبة "أوبك" أن تذبح نفسها بنفسها. ومن المناسب أن نشير في هذا الصدد إلى حقيقة ثابتة أكدها الملك عبد الله بن عبد العزيز في حديثه لجريدة "السياسة" المنشور يوم الثلاثاء 27/6/1429هـ الموافق 1/7/2008، حيث قال (ومن واقع قراءات لتقارير الخبراء أقول إن السعر الحالي للبترول يعد رخيصا إذا ما قورن بأسعار البدائل الأخرى للطاقة التي تشهد أيضا ارتفاعا متزايدا بفعل تزايد الطلب عليها أو تكلفة إنتاجها نتيجة تنامي معدلات النمو الاقتصادي).
تاسعا: أخيرا لن تتغير أوضاع السوق النفطية الدولية حتى تغير الدول الصناعية الرئيسة المستوردة للنفط سياساتها وتبذل جهدا حقيقيا للتعاون مع الدول المصدرة للنفط بهدف ضمان مصالح الطرفين معا، ولذلك لم يكن غريبا أن اتفقت معظم آراء المحللين على أن مؤتمر جدة لن يكون له تأثير ملموس على أسعار النفط وواقع الحال يشهد بصحة ذلك، حيث مازالت أسعار النفط تواصل ارتفاعاتها المتتالية بعد الاجتماع فقد تخطت وقت إعداد هذا المقال 146 دولارا للبرميل، وربما تصل إلى 200 في وقت قريب جدا. وفي هذا الصدد قال خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز في حديثه لجريدة "السياسة" الكويتية إن (على الدول المستهلكة أن تتكيف مع أسعار وأدوات السوق، وأن تعالج أمورها (بمنطق عادل).