تقلص الاقتصاد الملموس
التطور الاقتصادي تاريخيا يبدأ بفكرة التعامل مع مقتضيات وتحديات الحياة وترجمة الأفكار إلى ماديات محسوسة من خلال التقنية والتنظيم من اختراع العجلة إلى آلة الاحتراق الداخلي وما تلاها من تقدم اقتصادي وتقني. في الاقتصاد الجديد لا تزال الفكرة مهمة لكنها لا تأخذ شكلا ملموسا في ميدان الاستثمارات الأهم في الدول المتقدمة على الأقل وهذا توجه يغير كثيرا. ظهر كتاب جديد يشرح طبيعة التغير بعنوان "الرأسمالية دون رأسمال .. صعود الاقتصاد غير الملموس" لمؤلفيه جونثان هاسكل أستاذ الاقتصاد في الكلية الملكية في لندن ووستن وستليك. الكتاب خلاصة عقد من البحث في كيفية قياس الاستثمارات غير الملموسة وتأثيرها في حسابات الدخل القومي والمقارنة بين الدول المتقدمة، وكيف تختلف خصائص اقتصاد تغلب عليه الاستثمارات غير الملموسة ودور هذه الاستثمارات في تقهقر المساواة والنقص في نمو الإنتاجية.
العلامة الفارقة في الاقتصاد غير الملموس تتضح حين نقارن بين شركة تصنع الأسمنت وشركة أبل من حيث الملموس وغير الملموس في أصول الشركة وقيمتها . فالأصول الثابتة قليلة مقارنة بقيمة أبل السوقية. قيمة أبل، وهي الأعلى في العالم، تجتمع في التصميم والبرامج والاسم التجاري، بينما شركة الأسمنت أغلب قيمتها تجتمع في أصول مثل المنجم والمعدات والسيارات. مصدر الاختلاف في قيمة الاستثمارات يعود إلى أربع خصائص، الأولى تتمثل في طبيعة التكاليف غير المرتجعة Sunken cost، فشركة الأسمنت يمكنها أن تبيع الأصول الثابتة بأسعار تسهل مقارنتها، بينما يصعب بيع استثمار برامج غير مكتملة أو حتى الاسم التجاري. فعلى الرغم من الأهمية التجارية لبراءات الاختراع والإبداع إلا أن بيعها وتوظيفها يصعب تقييمه ومقارنته. الثانية: سهولة الاستعمال من قبل الآخرين Spillover، فمثلا مالك مصنع الأسمنت لديه الحق الواضح في حصر استعمال المصنع، لكن هذا لا يتوافر بسهولة لمن ينتج برامج وتطبيقات، فأي تعديل بسيط قد ينجيه من دفع تكاليف براءة الاختراع، ودرجة الاستفادة من استثمارات الآخرين أعلى في غير الملموس.
الثالثة: في طبيعة قابلية الاستثمارات للتوسع دون تكلفة إضافية أو قليلة Scalable، فمثلا شركة بيبسي لديها الوصفة السرية التي تبيع الحق في استعمالها دون الاستثمار في شركات التعبئة والتوزيع ، بينما لو رغبت شركة الأسمنت في التوسع فعليها في الغالب إنشاء خط أو حتى مصنع جديد.
الرابعة تأتي في الطبيعة التكاملية Synergies للاستثمارات في ما بينهم، فالاستثمارات غير الملموسة غالبا لا ترتقي لقيمة مؤثرة إلا إذا تكاملت بالطريقة المناسبة، إذ يصعب أن تبيع برنامجا دون أن يكتمل. هناك مجال للتكامل في الملموس أيضا، فمثلا هناك تكامل بين مصفاة نفط ومحطات توزيع وقود ولكن الحاجة إلى التكامل في منتجات «أبل» أكثر وضوحا وأهمية اقتصادية.
أعلى الدول الغربية في الاستثمارات غير الملموسة كنسبة من الدخل القومي هي السويد ثم أمريكا ثم بريطانيا، وأقلها إسبانيا ثم إيطاليا ثم ألمانيا (قياسا على متوسط الاستثمارات للفترة 1999-2013). يرجح بعض الاقتصاديين أن الاستثمارات غير الملموسة زادت من حدة عدم المساواة ونقص الإنتاجية في الاقتصاد عموما. منهجيا هناك صعوبة في قبول التغير وعمليا في القياس. اقتصادنا ما زال يصارع في دائرة تفعيل الملموس لكننا بدأنا دخول غير الملموس ولكن تفعيله يتطلب شروطا جديدة بعضها يخدم الاقتصاد الملموس (أحد أوجه التحول الاقتصادي لتحقيق الرؤية) منها زيادة وتسريع المرونة التنظيمية والتشريعية. الثاني رفع مستوى البنية التحتية في الاتصالات والمعلوماتية والتواصل مع الشركات العالمية لأن ما يسمى اقتصاد المنصةplatform economy هو القاعدة الأساسية للاقتصاد غير الملموس. الثالث رفع مستوى التعليم وتمكين عملية الفرز لإعطائه موثوقية أعلى، ولعل هذه أضعف حلقة لدينا اليوم.