التطورات الإيجابية في مؤشرات الاقتصاد العالمي «1 من 2»
لا يزال الانتعاش الدوري العالمي يكتسب قوة متزايدة منذ بدأ في منتصف 2016. فمنذ فترة لا تتجاوز العام ونصف العام، كان الاقتصاد العالمي يواجه تباطؤا في النمو واضطرابات في الأسواق المالية. لكن الصورة الراهنة تبدو مختلفة للغاية مع تسارع النمو في أوروبا واليابان والصين والولايات المتحدة. ولا تزال الأوضاع المالية قوية عبر بلدان العالم، كما يبدو أن الأسواق المالية تتوقع قليلا من الاضطرابات في الفترة المقبلة، بينما يواصل «الاحتياطي الفيدرالي» استعادة الأوضاع النقدية العادية، ويسير البنك المركزي الأوروبي بخطوات وئيدة في الاتجاه نفسه.
وتشكل هذه التطورات الإيجابية باعثا جيدا لمزيد من الثقة، ولكن لا ينبغي لصناع السياسات ولا الأسواق أن يركنوا إليها مؤثرين التراخي. ذلك أن النظرة المدققة تشير إلى احتمال أن يكون التعافي العالمي غير قابل للاستمرار ــــ فالبلدان ليست جميعا مشاركة فيه، والتضخم لا يزال في الغالب أدنى من المستوى المستهدف مع ضعف نمو الأجور، والآفاق متوسطة الأجل لا تزال مخيبة للآمال في كثير من أنحاء العالم. ونجد أيضا أن هناك مخاطر كبيرة تهدد التعافي الجاري. ومن ثم فإن الأسواق المالية التي تتجاهلها تتعرض لعمليات إعادة تسعير مربكة، وتبعث برسائل مضللة لصناع السياسات. وصناع السياسات، بدورهم، عليهم الاحتفاظ برؤية أطول أجلا واغتنام الفرصة السانحة لتنفيذ الإصلاحات الهيكلية والمالية اللازمة بغية تعزيز الصلابة ورفع الإنتاجية والاستثمار. ويعتبر احتمال ألا يسلكوا هذا المسلك ــــ إذ إن الحكومات كثيرا ما تنتظر حتى تدفعها الأزمات إلى اتخاذ إجراء حاسم ــــ هو نفسه مصدرا للمخاطر التي تهدد آفاق الاقتصاد، وعائقا أمام تحقيق نمو أكثر احتوائية وقابلية للاستمرار. ويهيئ التقدم الاقتصادي المحقق أخيرا بيئة عالمية مليئة بالفرص، وعلى صناع السياسات ألا يضيعوا الفرصة السانحة لهم.
ويعتبر التعافي الراهن غير مكتمل من بعض النواحي المهمة: داخل البلدان، وعبر البلدان، وعبر الزمن.
في الوقت الذي تنغلق فيه فجوات الناتج السلبي في الاقتصادات المتقدمة، يظل نمو الأجور الاسمية والحقيقية ضعيفا مقارنة بفترات التعافي السابقة. ويشكل ضعف نمو الأجور مصدرا للتضخم الضعيف بدرجة مستغربة الذي يعتبر بدوره باعثا على القلق، ذلك أنه يبقي أسعار الفائدة الاسمية منخفضة ويزيد احتمالات وصولها إلى الحد الأدنى الفعلي، أي النقطة التي تنتهي عندها قدرة البنوك المركزية على إجراء مزيد من الخفض في أسعار الفائدة. ويدرس الفصل الثاني من تقرير آفاق الاقتصاد العالمي ذلك البطء المستغرب في نمو الأجور الاسمية أخيرا، الذي يعزز امتداد ركود الأجور الوسيطة إلى المدى الأطول، وتصاعد عدم المساواة في توزيع الدخل، واستقطاب الوظائف على النحو الذي أحدث ندرة متزايدة في الوظائف المجزية التي تتطلب مهارات متوسطة. وقد تسببت هذه التطورات في رد فعل شعبي كبير مضاد للعولمة ــــ وهو بمثابة خطر كبير يهدد الاقتصاد العالمي ـــ على الرغم من أن التطورات التكنولوجية والسياسات الحكومية قاما معا بدور أكبر في زيادة عدم المساواة في توزيع الدخل، كما أن المخاوف من زيادة سرعة التحول إلى النظم الآلية تمثل باعثا على القلق في الوقت الراهن. وقد تعرضت الأسواق الصاعدة لضغوط مماثلة في مواجهة تحرير التجارة والتغير التكنولوجي، ولكن النمو أدى في كثير من الحالات إلى رفع الشريحة العُشرية في توزيعات الدخل لديها، ولا تزال المواقف السائدة تجاه آثار التجارة في أسواق العمل متفائلة في معظمها.
يغطي الصعود الاقتصادي الحالي نطاقا أوسع من أي فترة طوال العقد الماضي ــــ إذ يشارك في هذا النشاط المتسارع نحو 75 في المائة من الاقتصاد العالمي، مقيسا بإجمالي الناتج المحلي المحسوب على أساس تعادل القوى الشرائية. ولكن هذا يعني أن 25 في المائة من الكوب فارغ، ما يشكل عبئا على النمو العالمي ومصدرا محتملا للصدمات السياسية المزعزعة للاستقرار. فالبلدان الصاعدة ومنخفضة الدخل المصدرة للسلع الأولية، وخاصة المصدرة للطاقة، لا تزال تعاني، ومثلها عدة بلدان تمر بقلاقل أهلية واضطرابات سياسية، معظمها في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا جنوب الصحراء وأمريكا اللاتينية. وكثير من هذه البلدان ذاتها هو الأشد تعرضا أيضا للآثار السلبية المترتبة على تغير المناخ – التي نلمسها بالفعل من خلال زيادة تواتر الأحداث الجوية المؤثرة في بعض المناطق، مثل موجات الحر والأمطار الغزيرة.. يتبع.