سيرة حرام

[email protected]

إننا لا نحسب عدد المرات التي عشنا فيها إلاّ حين ندرك خُطى الموت، سيرة كاملة تمرّ بين أعيننا، في وهلة من ذاكرة!، في خطفة لا نعد لها تماماً، فتخرج مختلفة عنّا.
إنّنا نُعلّق الكثير من الثياب على شمّاعة ذاكرتنا، تلك التي ارتديناها البارحة، وتلك التي لم تكن بمقاسنا، وتلك التي تفوح منها رائحة المنظفات، حتى تلك التي لبسناها في حفلةٍ سيئة ورميناها كي لا نعود لها من جديد، ذاكرتنا تلك التي توضب حاجياتنا المتراكمة فوق بعضها، تنفض الغبار عما لا نحتاج إليه، وتكدس الأشياء الصغيرة تلك التي نستطيع فيها أن نرتب يومنا عادة.
سيرنا الذاتية، تلك التي ندسها في جيوبنا خوفاً من أي فقد، هي سير محرمة حين تفضح ما في رؤوسنا المثقلة بالعمر الذي ينتظر أن يكتمل بها.
ولكنها سيرة .. شاءت أن تفصح عمّا حرم فيها وأن تكون : (ممشى إلى ... يا بثينة، يانهران، هل تريا ذاك الجالس وحيداً، نعم نعم.. الذي يعتمر قبعة القماش الرمادية، إنه يحيى سبعي، أعطياه هذا الكتاب .. وإذا سأل " من أنتما "، فلا تجيباه!).
هي " حرام" C.V، النصوص النثرية لـ "عبد الله ثابت " الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، تلك التي تحمل رائحة " النيكوتين" وتحذيره في بدء السّيرة، بعد أن "هتك" قلبنا، وجسّ نبضات " نوباتنا".. جاءنا بسيرته الحرام، وازداد ثقل دهشته في داخلنا، انتشرت رائحة النيكوتين بين تلك النصوص لتخدّر القارئ ثم يبدأ بعدها هو بأحاديث الموت والرحيل والغربة.
كان كلّ شيء في هذه السيرة مغايراً، ابتداء من الغلاف الذي كان من تصوير هشام مسعود وتصميم معتز قطّينة، وانتهاءً بالإخراج الداخلي الذي لم يكن روتينياً في ترتيبه أبداً، فقد كان يُظهر بعض النصوص وكأنها محادثات ونوافذ " ماسنجرية " في الإنترنت، حتى إنه كان يضع عند بعضها روابط إنترنت تجعلك تتخيل أنك أمام شاشة كمبيوتر، وأنت تقرأ حروفه، حتّى وإنه أنهى كتابه برابط أغنية وكلمة ' Sign Out ' تعبيراً عن خروجه من تلك النوافذ.
كان يحكي في تلك النوافذ مع أولئك الذين إما رحلوا بأجسادهم وبقيت أرواحهم، أو الذين ما زالوا على قيد حياة، ولكنهم بعيدون جداً، كان يقول ما يريد أن يسمعه منهم، ثمّ يجيب عليهم، وكأنه كان ينتظر طويلاً كي يحكي.
صدر للمؤلف من قبل رواية "الإرهابي 20" عن دار المدى، وقد أثارت ضجة كبيرة منذ ظهورها، وكذلك " النوبات " و"هتك"، وكلها تحتوي على نصوص نثرية أو ما يُسمّى بالقصيدة النثرية، وقد مال عبدالله ثابت منذ خروجه إلى الأسلوب الحداثي في الأدب بكتاباته، ومازال في المقدمة بأسلوبه الفلسفي الذي يبرع فيه بالكتابة في لغة ثقيلة مذهلة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي