أمن الغذاء أم أمن الطاقة؟

تشهد أسعار المواد الغذائية ارتفاعا ملحوظا على المستوى العالمي يضيف إلى الارتفاع الناتج عن عوامل التضخم الذاتية التي قد تؤثر في الأسعار المحلية لبلد معين. وبناء على مصادر منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) التابعة للأمم المتحدة، فإن مؤشر الأسعار لـ 60 سلعة غذائية متبادلة عالميا قد ارتفع بنسبة (37 في المائة) خلال عام 2007 بعد أن كان قد ارتفع بنسبة (14 في المائة) في العام السابق.
وقد كانت هذه التطورات خلف العديد من الاحتجاجات الشعبية والاضطرابات التي شهدتها بعض الدول أخيرا مثل: غينيا، موريتانيا، المكسيك، المغرب وغيرها. كما أنها دفعت بالعديد من الدول لاتخاذ إجراءات وقائية للحد من ارتفاع الأسعار مثل وقف تصدير المواد الغذائية وتحديد أسعارها. حيث قامت مصر بوقف تصدير الأرز وقامت الصين بتحديد أسعار زيوت الطبخ والحبوب واللحوم والحليب والبيض.
ويعود هذا الارتفاع في أسعار المواد الغذائية إلى عاملين أساسيين: الأول هو ازدياد الطلب عليها في الدول النامية نتيجة النمو السكاني والنمو السريع في الدخل في دول مثل الصين والهند وغيرهما. أما العامل الثاني فهو توجيه جزء كبير من المحاصيل المنتجة للزيوت النباتية كالذرة والصويا وزيت النخيل Palm Oil إلى إنتاج الوقود العضوي لأغراض النقل وتوليد الطاقة الكهربائية، الأمر الذي جعل من هذا العامل المساهم الأكبر في ارتفاع الأسعار. وقد شكل هذا نصف الزيادة في الطلب على الزيوت النباتية العام الماضي بينما حصته في إجمالي الاستهلاك لا تتجاوز 7 في المائة فقط، بناء على تقديرات مؤسسة عالم النفط الألمانية. وقد كان من نتائج ارتفاع أسعار زيت النخيل بنحو (70 في المائة) العام الماضي، فقدان بعض مصافي تكرير هذا الزيت، التي أقيمت في ماليزيا حديثا لغرض إنتاج زيت الديزل العضوي، جدواها الاقتصادية حيث لا تزال متوقفة عن الإنتاج.
ويبدو أن مشكلة الارتفاع في أسعار المواد الغذائية في طريقها إلى التفاقم في حال لم تعدل بعض الدول الرئيسة المستهلكة للطاقة من سياساتها الحالية. فالاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، يهدف إلى رفع حصة الوقود العضوي من إجمالي وقود النقل إلى نحو (6 في المائة) بحلول عام 2010 وإلى (10 في المائة) بحلول عام 2020. بينما تهدف الولايات المتحدة إلى رفع حصة هذا الوقود في قطاع النقل إلى (15 في المائة) بحلول عام 2022. ولغرض تحقيق هذه الأهداف، فإن كلاهما يوفر لصناعة الوقود العضوي أشكال الدعم المباشر وغير المباشر كافة، إذ إنها لا تعد مجدية دون الدعم ما دامت أسعار النفط دون 80 أو 90 دولارا للبرميل. وبالتالي تشهد صناعة الوقود العضوي ازدهارا غير مسبوق وأصبحت تشكل مجموعة ضغط في تلك الدول تعمل على الحفاظ على مكتسباتها بالتحالف مع بعض فئات المزارعين المستفيدة من ارتفاع الأسعار والدعم الحكومي لها.
وتستند سياسات تطوير الوقود العضوي على ادعاءين أساسيين: الأول هو أن تطوير هذا الوقود البديل للنفط يسهم في تعزيز أمن الطاقة في الدول المستهلكة لها من خلال تنويع مصادرها بحيث لا يبقى الاعتماد مقتصرا على المنتجات النفطية التقليدية (الجازولين و الديزل). بينما الادعاء الثاني فهو أن الوقود العضوي لا يضيف من الغازات الدفيئة التي تعد مسؤولة عن ارتفاع حرارة جو الأرض, نظرا لأن ما ينبعث من غاز ثاني أكسيد الكربون نتيجة استعمال هذا الوقود، هو نفس ما سبق وامتصته المواد العضوية من هذا الغاز إبان نموها. و بالتالي ليس هناك إضافات صافية إلى الطبيعة من الغازات الدفيئة بخلاف الوضع الناتج عن استعمال الوقود الأحفوري.
إلا أن هذين المبررين يفتقران إلى الموضوعية إلى حد كبير. حيث إنه من الواضح أن الحصة المستهدفة للوقود العضوي، حتى على المدى البعيد، تبقى متواضعة حيث يبقى إسهامها في تنويع مصادر الطاقة محدودا جدا. علاوة على أن الدول المنتجة للنفط تمكنت عبر عقود من الزمن أن تؤمن الإمدادات المطلوبة في ظل أصعب الظروف الأمنية وحالات عدم الاستقرار التي شهدها العالم.
أما الادعاء الثاني أن إنتاج واستخدام الوقود العضوي لا يسهم في زيادة مستوى غاز ثاني أكسيد الكربون، فهو أيضا موضع شك فيما لو تم الأخذ في الاعتبار آثار الدورة الكاملة لإنتاج واستخدام هذا الوقود. بل الصحيح قد يكون عكس ذلك تماما، حيث بينت نتائج دراستين علميتين تم نشرهما أخيرا في المجلة العلميةScience ، الموثوقة والمعتبرة في الأوساط العلمية العالمية، أن استخدام معظم أنواع الوقود العضوي يبعث إلى جو الأرض كميات من غاز ثاني أكسيد الكربون تفوق تلك التي تنتج عن استخدام منتجات النفط التقليدية. ويعود هذا أساسا إلى أن تحويل أراضي الغابات إلى أراض زراعية لغرض إنتاج الوقود العضوي يتسبب في انبعاث كمية من الغازات الدفيئة تساوي (93) ضعف الكمية التي يتم توفيرها سنويا جراء استخدام هذا الوقود، ذلك نظرا لأن كفاءة الغابات في امتصاص غاز ثاني أكسيد الكربون أعلى من كفاءة الأراضي الزراعية والعشبية بأضعاف مضاعفة.
في ضوء هذه الحقائق، تصبح صناعة الوقود العضوي فاقدة للجدوى الاقتصادية والبيئية والأمنية إلى حد كبير، ويبقى المستفيد الوحيد قلة عالمية تمثل المنتفعين من الدعم الذي توفره لهذه الصناعة بعض حكومات الدول الصناعية. بينما ترتفع في المقابل أعباء سكان العالم جميعا نتيجة ارتفاع أسعار المواد الغذائية خاصة معاناة مئات الملايين من الفقراء.
إن البديل الأجدى والأقل ضررا بكثير، هو الإسراع في استخدام التقنيات المتوافرة لتحقيق الاستخدام النظيف للطاقة الأحفورية مثل حبس الغازات الدفيئة منعا لانبعاثها للجو، وتعزيز كفاءة استخدام الطاقة، وزيادة دعم البحث العلمي والتطوير التقني لخدمة هذه الأغراض، علاوة على زيادة الاستثمار في الزراعة، خاصة في الدول النامية.
وفي هذه المجالات لا بد للدول المنتجة للطاقة الأحفورية أن تقوم بدور ريادي، حيث إن هذا لا يخدم مصالحها الوطنية فحسب، بل يسهم أيضا في خدمة الإنسانية جمعاء.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي