كيف يتحدد اختصاص المحاكم التجارية؟ (3 من 7)

تناولنا في المقالتين السابقتين الأساسين الأول والثاني لتحديد اختصاص القضاء التجاري (المحاكم التجارية) الذي يعتمد على النص التشريعي الخاص بتعريف التاجر والأعمال التجارية. وننتقل الآن إلى تناول الأساس الثالث لتحديد هذا الاختصاص، وهذا الأساس يقوم على القواعد التي حددها المشرع لتطبيق القانون التجاري.
يوجد اتجاهان في فقه القانون التجاري بشأن كيفية تحديد اختصاصات القضاء التجاري, الاتجاه الأول ويسمى (المذهب الشخصي) ويعتمد على التاجر نفسه كأساس لتطبيق القانون التجاري، فطائفة التجار هم وحدهم المخاطبون بأحكام هذا القانون, ويكتسب الشخص وفقا لهذا الاتجاه صفة التاجر إذا مارس الأعمال التجارية على سبيل الاحتراف. والاتجاه الثاني (المذهب الموضوعي) ويستند إلى العمل التجاري وحده كأساس لتطبيق هذا القانون بغض النظر عن صفة الشخص الذي يمارس هذا العمل, استنادا إلى أن العمل التجاري يقوم على المضاربة وتداول الأموال والثروات وهي أساس التجارة.
وبالرجوع إلى النظام التجاري السعودي المسمى (نظام المحكمة التجارية) الصادر سنة 1350 هـ نجد أن المادة (443) من هذا النظام حددت صلاحيات المحكمة التجارية فنصت على ما يلي:
القضايا التي يحال أمر النظر فيها إلى المحكمة التجارية ويجرى بالفعل بتها عن طريقها وضمن اختصاصها هي:
(أ‌) كل ما يحدث بين التجار ومن لهم بهم علاقة تجارية من صرافة ودلالين ومقدمي المخازن والحيشان من مشكلات ومنازعات متولدة من أمور تجارية محضة سواء كانت برية أو بحرية.
(ب‌) القضايا المنبعثة عن الصرافة وبالأخص صرف النقدية والأقيام والأوراق المالية وما يتعلق بالحوائل العادية والحوائل التجارية المعبر عنها – الجيرو – والسندات التجارية المعبر عنها بالسفاتج المتداولة بين التجار سواء كانت بين البنوك وفيما بينهم, وبين سائر الأصناف المذكورة أسماؤهم في الفقرة (أ).
(ج) المشاكل التي تحدث بين أرباب السفن الشراعية بخصوص التلفيات والاصطدامات والتعديلات على الإطلاق وكذا أجور النقل.
(د) القضايا الناشئة عن اختلاف في التعهدات والمقاولات سواء كانت بين أرباب السفائن أو بين هؤلاء والتجار وكذا الكفالات المالية المختصة بالأمور التجارية.
(هـ) القضايا التي تقع بين الشركاء المرتبطة شراكتهم بالأصول التجارية أو بين الشركات على اختلاف أنواعها الجاري تأسيسها وتسجيلها وفق نظاميها المخصوصين وكذا بين سائر التجار والصيارف والدلالين ومقدمي الحيشان والأمناء والوكلاء بالعمولة وكتبتهم وخدم محلاتهم فيما إذا كان لهم علاقة تجارية.
وأضافت المادة (444) من نظام المحكمة التجارية إلى الاختصاصات المذكورة آنفا اختصاصا آخر هو النظر في الدعوى التي يصدر بها أمر خاص من قبل الملك.
وبالرغم من أن بعض شراح القانون التجاري السعودي، يرون أن النظام التجاري السعودي لا ينظر عند تحديده لدائرة تطبيقه إلى صفة الشخص القائم بالعمل (أي سواء كان تاجرا أو غير تاجر) بل ينظر إلى العمل ذاته استنادا إلى المادة الثانية من نظام المحكمة التجارية التي عددت الأعمال التي تعد من قبيل الأعمال التجارية إلا أن قضاء الدوائر التجارية في ديوان المظالم استقر على أنه فيما عدا الدعاوى المتعلقة بتطبيق أحكام نظام الشركات ومنازعات الشركاء في الشركات التجارية فإن الدعوى لا تقبل إلا إذا كانت قائمة بين تاجرين وكان موضوعها يتعلق بأعمالهما التجارية. أي أن الدوائر التجارية في ديوان المظالم أخذت بالمذهب الشخصي الذي يعتمد على التاجر كأساس لتحديد اختصاصاتها. وإذا كان الأصل في الدعوى التجارية طبقا للمذهب الشخصي أن يكون المدعي والمدعى عليه من التجار إلا أن قوانين بعض الدول مثل فرنسا تعطي المدعي غير التاجر الخيار بين رفع دعواه ضد التاجر أمام المحكمة التجارية أو المحكمة المدنية طالما أن موضوع الدعوى يتعلق بالأعمال التجارية التي يزاولها التاجر المدعى عليه. ولكن لا يستطيع المدعي التاجر مقاضاة خصمه غير التاجر إلا أمام المحكمة المدنية. ونسوق على ذلك مثلا إذا اشترى شخص غير تاجر سيارة بالتقسيط من محل بيع سيارات وتبين للمشتري وجود عيوب في السيارة لم يكن يعلمها وقت الشراء ورفض البائع (التاجر) إصلاحها فإن المشتري غير التاجر بالخيار بين رفع دعواه أمام المحكمة التجارية أو المحكمة المدنية. أما في حالة امتناع المشتري غير التاجر عن سداد أقساط ثمن السيارة فإن البائع (التاجر) لا يملك مقاضاة خصمه المشتري (غير التاجر) إلا أمام المحكمة المدنية.
ويسود الآن اتجاه حديث في القانون التجاري المقارن يجمع بين المذهبين الشخصي والموضوعي تسري بموجبه أحكام القانون التجاري على التجار وعلى جميع الأعمال التجارية التي يقوم بها أي شخص ولو كان غير تاجر. ونسوق على ذلك مثلا بقانون التجارة المصري الصادر سنة 1999م حيث نصت مادته الأولى على أن (تسري أحكام هذا القانون على الأعمال التجارية، وعلى كل شخص طبيعي أو اعتباري تثبت له صفة التاجر).
ونخلص من جميع ما سبق إلى دعوة المقنن السعودي إلى إعادة النظر في كيفية تحديد اختصاصات القضاء التجاري (المحاكم التجارية الجديدة) على نحو يوسع من نطاق مفهوم العمل التجاري توسيعا يتواكب مع مستجدات عصر العولمة الاقتصادية والاتجاهات الحديثة في القوانين التجارية المقارنة وعلى نحو يأخذ بالاتجاه الحديث القائم على الجمع بين المذهبين الشخصي والموضوعي, بحيث تختص المحاكم التجارية بالفصل في جميع المنازعات والخصومات التالية:
1 ـ المنازعات التي تنشب بين التجار، سواء كانوا أشخاصا طبيعيين أو اعتباريين، وتتعلق بأعمالهم التجارية.
2 ـ المنازعات التي تتعلق بالأعمال التجارية التي يقوم بها أي شخص ولو كان غير تاجر.
3 ـ الدعوى التي يرفعها شخص غير تاجر ضد تاجر ويتعلق موضوعها بالأعمال التجارية للمدعى عليه.
وأحسب أن تحديد اختصاص المحاكم التجارية على النحو المقترح آنفا هو الذي يحقق الغاية التي استهدفها نظام القضاء الجديد من إنشاء محاكم تجارية متخصصة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي