مشاكل الاقتصاد الأمريكي.. القشة التي ستقصم ظهر البعير
تتميز الولايات المتحدة بأنها القوة الاقتصادية العظمى في العالم التي تجذب رؤوس الأموال إليها ثم تقوم هي بإعادة توزيعها بالطريقة التي تراها مناسبة في مختلف أنحاء العالم. فيوماً ما كانت اليابان الوجهة المثلى لاستثماراتها ثم النمور الآسيوية ثم الصين حالياً والتي يبدو أنها بدأت تفقد بريقها لدى صانع القرار الاقتصادي الأمريكي لعدم امتثالها لرؤيته المتعلقة بأسعار الصرف العادلة. الآن الوجهة الجديدة للاستثمارات هي الهند التي يعول عليها الكثير في التحول بشكل كامل إلى نظام رأسمالي بحت. بل إن التعاون الأمريكي – الهندي يتجاوز الاقتصاد إلى السياسة وبشكل أكثر وضوحاً في التعاون النووي الأخير معها. ومع ذلك فالاقتصاد الأمريكي يواجه الكثير من المشاكل الاقتصادية الداخلية التي ينتظر أن تتفاقم خلال السنوات المقبلة إن لم تكن هناك عزيمة قوية لحلها وتجاوزها. هذه المشاكل تتراوح بين مشاكل الركود الاقتصادي الذي تواجهه حالياً. ومشاكل قطاع الإسكان التي تفاقمت مع ظهور أزمة الرهونات العقارية على السطح. ومشاكل عجز الموازنة الحكومية وتفاقم الدين العام خصوصاً مع تزايد تكاليف الحرب على العراق. أضف إلى ذلك مشاكل عجز الميزان التجاري وميزان الحساب الجاري الأمريكي خصوصاً مع تزايد ديون أمريكا الخارجية. وأخيراً مشاكل القطاع الصحي وصناديق معاشات التقاعد والتأمينات الاجتماعية والتي ينتظر أن تطفو على السطح خلال السنوات المقبلة.
كل هذه القضايا تخلخل هذا النظام الاقتصادي العتيد والمعقد التركيب يوماً بعد يوم وتجعل الكثير من الاقتصاديين يتوقعون حدوث كارثة اقتصادية كتلك التي حدثت في عام 1929 فيما يسمى بالكساد الكبير. ومع ذلك فقد مثلت هذه الكارثة درساً قاسياً للاقتصاد الأمريكي جعلته قادراً على تجاوز جميع الأزمات التالية خصوصاً خلال 30 عاما الأخيرة. فمن أزمة الركود الاقتصادي الحاد في بداية الثمانينيات وارتفاع معدلات التضخم والبطالة لمعدلات عالية جداً إلى أزمة الأسواق المالية عام 1987 ثم أزمة صندوق التحوط الضخم LTCM في عام 1997 وانفجار فقاعة شركات التقنية في عام 1999 وفضائح شركة إنرون وإفلاس شركة وورلد كوم في عام 2001. كل هذه الأزمات استطاع الاقتصاد الأمريكي تجاوزها بما توافر لها من ديناميكية وسرعة في التجاوب معها. ومع ذلك فإنني أجزم أن الطبيعة التراكمية لمشاكل الاقتصاد الأمريكي والمتسارعة خلال السنوات الأخيرة ستشكل خطراً كبيراً على هذا الاقتصاد العتيد والذي يمثل رأس حربة الرأسمالية العالمية.
لنأخذ على سبيل المثال أزمة الركود التي يشهدها الاقتصاد الأمريكي حالياً. فعلى الرغم من أنها تمثل حلقة واحدة من إحدى حلقات الدورات الاقتصادية إلا أنها تأتي كنتيجة تراكمية لمشاكل الرهن العقاري والتي أدت إلى مشاكل في سوق الائتمان الأمريكي والعالمي على حد سواء. ففي حين أسهمت المرونة التي يتمتع بها الاقتصاد الأمريكي من تقديم منتجات مالية جديدة في إتاحة الفرصة للكثيرين لتملك المنازل والتمتع بوضع معيشي أفضل، إلا أن ذلك يضيف إلى هذا الاقتصاد تعقيداً شديداً يجعل من الصعب تلافي حدوث الأسوأ بسبب صعوبة فهم هذه المنتجات ومن ثم إجراء رقابة مثلى عليها. عجز الموازنة الأمريكية مشكلة أخرى من المشاكل التي تتخذ طريقة حلها الطريقة التراكمية. فقد بلغ عجز الموازنة الأمريكية خلال عام 2006 ما قيمته 260 مليار دولار، وتمويل هذا العجز إما سيأتي على حساب دافع الضرائب الأمريكي الذي يواجه في الوقت نفسه ضغوطاً كبيرة جراء تفاقم أزمة الرهن العقاري التي أشرت إليها سابقاً, وإما على حساب الدين العام الأمريكي الذي تجاوز تسعة تريليونات دولار. والخيار الأول مستبعد في ظل الضغط الذي يواجهه المواطن الأمريكي بسبب أزمة الرهن العقاري التي أشرت إليها، مما يعني أن الوضع الأمثل حالياً هو تمويلها بإصدار المزيد من الدين العام الذي يتزايد حالياً بمعدل 676 مليار دولار كل عام. أي كما أشرت سابقاً فالطبيعة التراكمية لمشاكل الاقتصاد الأمريكي تتفاقم يوماً بعد يوم مما يعني أن جيلاً قادماً سيتحمل عبء هذه القروض يوماً ما.
مثال أخير على مشاكل الاقتصاد الأمريكي ذات الطبيعة التراكمية هي تزايد التزامات كل من صندوق التأمينات الاجتماعية Social Security System وصناديق معاشات التقاعد الحكومية. فالطبيعة التي تعمل بها هذه الصناديق التي تدار سواءً من قبل الحكومية الفيدرالية في حالة التأمينات الاجتماعية ومن قبل الولايات والحكومات المحلية تضيف المزيد من الالتزامات تجاه المشتركين في هذه الصناديق يوماً بعد يوم دون توفير غطاء مستقبلي لهذه الالتزامات. فحسب التقديرات يتوافر حالياً في صندوق التأمينات الاجتماعية ما يقارب تريليوني دولار يتوقع أن تتزايد تدريجياً لتبلغ أعلى قيمة لها بما يقارب الأربعة تريليونات دولار فيما بين عامي 2025 و2035. ثم ستأخذ بعد ذلك في التراجع تدريجياً وبشكل متسارع حتى ينفذ ما في الصندوق في عام 2042. أيضاً تواجه صناديق معاشات التقاعد الحكومية مشكلة مماثلة بالنظر إلى بلوغ التزاماتها غير الممولة تجاه المشتركين بها قيمة تقدر بـ 374 مليار دولار يتوقع أن تتزايد بشكل تدريجي بسبب سوء الإدارة المتعلقة باستثمارات هذه الصناديق. وهذه الالتزامات مثلها مثل الدين العام ستفرض على جيل مقبل يوماً ما تحمل عبء هذه الالتزامات بسبب أن الجيل الحالي أكثر أنانية ونهماً للإنفاق على حساب الأجيال المقبلة.