من فيراري إلى فيريرو.. ما سر تفوق الشركات العائلية في إيطاليا؟
القوة المتصاعدة للشركات العائلية في قلب الاقتصاد الإيطالي تبرز مرونة نموذج هذه الشركات وقدرته على التكيّف
الشركات العائلية تتفوق على نظيراتها في الأداء والاستمرارية حتى خلال الأزمات مثل جائحة كوفيد
جيل جديد من القادة المتعلمين والخبراء يعيد رسم مستقبل الرأسمالية العائلية في إيطاليا
إذا ما زرتَ ميلانو، كما فعلتُ أنا أخيرا، ستلاحظ على الفور أن الرأسمالية الإيطالية لا تزال، كما كانت دائماً، شأناً عائلياً بامتياز. (رغم أني كنت هناك لحضور مؤتمر حول مستقبل الرأسمالية). فدُور الأزياء الكبرى في ميلان، من "جورجيو أرماني" إلى "دولتشي آند غابانا" و"برادا"، جميعها شركات عائلية، فيما سيارات "فيراري" التي تهدر محركاتها في شوارع المدينة، وآلات "بيزيرا" (Bezzera) التي تصنع أروع أنواع القهوة، وشوكولاتة "فيرّيرو" التي تنهي بها وجباتك، كلها منتجات شركات مملوكة عائلياً.
في غضون ذلك، تتربع شركات كبرى مثل "فيراري"، على رأس شبكة واسعة من الموردين، معظمها شركات عائلية تهيمن على منطقة لومبارديا. في المقابل، تنتمي الشركات العملاقة المدرجة في البورصة وسلاسل المتاجر إلى عالم رأسمالي أنغلوساكسوني غريب. فحتى في أكثر مناطق إيطاليا تقدماً اقتصادياً، لا تزال العائلة هي الملك.
لعنة الجيل الثالث
لكن كلّ من شاهد مسلسل "Succession" يدرك أن الشركات العائلية تواجه مشكلاتها الخاصة التي غالباً ما تطيح بها، من أبناء غير مؤهلين لتسلّم دفة القيادة إلى صراعات عائلية، لدرجة أن "لعنة الجيل الثالث" باتت وصفاً شائعاً، يُشار إليه بعبارات كثيرة في لغات مختلفة، مثل "من الفقر إلى الفقر في 3 أجيال" بالإنجليزية، أو تعبير "من الإسطبلات إلى النجوم، فالإسطبلات" في إيطاليا.
يسود افتراض بين المنظّرين في الإدارة والاقتصاد أن الرأسمالية العائلية هي بقايا حقبة غابرة حين كانت المؤسسات لا تزال في مراحلها البدائية، وكانت الثقة محصورة ضمن دائرة العائلة والأصدقاء المقرّبين. ويرى المؤرخ الاقتصادي البارز ألفريد تشاندلر أن الشركات العائلية ستُسحق أمام الشركات العامة، التي تتمتع بقدرة أكبر على جذب رؤوس الأموال والكفاءات والخبرات الإدارية.
أما برونو بيليغرينو، من جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، ولويدجي زينغالس من كلية بوث لإدارة الأعمال في جامعة شيكاغو، فيذهبان إلى أن أسلوب الإدارة القائم على الولاء العائلي في إيطاليا، تسبب في الحدّ من نموّ الإنتاجية في البلاد. فالرأسمالية العائلية، برأيهم، جزءٌ من ممارسات متداخلة أبقت الاقتصاد الإيطالي عالقاً في فخ النمو المنخفض.
مع ذلك، فإن "لعنة الجيل الثالث" ليست قاعدة عامة. خذ مثلاً، أسرة أنتينوري التي تنتج النبيذ في توسكانا منذ 1385، وعائلة بيريتا التي تصنع المسدسات في بريشيا منذ 1526. كما تُعدّ "غوتشي" و"فيراري" من أنجح العلامات التجارية عالمياً، حتى أن منافسة "غوتشي"، مجموعة "إل في إم إتش" (LVMH) الفرنسية، هي الأخرى شركة عائلية.
وتهيمن الشركات العائلة على قطاع الصناعة حتى أكثر من قطاع الأزياء، حيث تمثل الشركات العائلية 43.5% من إجمالي الشركات الصناعية.
شركات ناجحة برؤساء تتجاوز أعمارهم 70 عاماً
أقنعتني زيارتي لجامعة "بوكوني" في ميلانو، التي تُعدّ من أبرز المؤسسات التي تسهم في تكوين النخبة الإيطالية، بأننا في موقع مناسب للحكم على مدى متانة الرأسمالية العائلية، على الأقل في السياق الإيطالي، وذلك بفضل عاملين رئيسيين: برنامج بحثي واختبار تحمّل.
يتابع مرصد "AUB" للشركات العائلية الإيطالية(وهو اختصار يجمع بين الجمعية الإيطالية للشركات العائلية AIDAF، ويوني كريديتUniCredit، وجامعة بوكوني) عن كثب أداء جميع الشركات الإيطالية التي يتجاوز حجم مبيعاتها 20 مليون يورو، سواء كانت عائلية أو غيره. ووفقاً لأحدث دراسة، بلغ عدد هذه الشركات 23,578 شركة، منها 15,836 تُصنَّف كشركات عائلية.
ويصدر المرصد تقريراً سنوياً يتناول واقع الشركات العائلية، ويُعرّفها على النحو التالي: (1) شركات خاصة تملك فيها عائلة واحدة أو اثنتان أغلبية الأسهم، و(2) شركات مُدرَجة في البورصة تملك فيها عائلة أو اثنتان ما لا يقل عن ربع الحصص. أما اختبار التحمّل فتمثّل بجائحة كوفيد.
كشف عمل المرصد بوضوح عن أمرين أساسيين، أولاً، أن الشركات العائلية تفوّقت على نظيراتها غير العائلية في معظم المؤشرات، بما في ذلك حجم المبيعات والعائد على الاستثمار والإنتاجية.
ثانياً، أن هذا التفوق لم يتراجع خلال جائحة كوفيد، بل حتى تعزّز، إذ ارتفع عدد الشركات العائلية التي يتجاوز حجم مبيعاتها 20 مليون يورو بنسبة 36.1% بين عامي 2020 و2022، مقابل 23.2% فقط لدى الشركات غير العائلية. كما واصلت الشركات العائلية صدارتها في أغلب مؤشرات الأداء.
أما الاستثناء الأبرز في هذا الاتجاه الإيجابي، فكان لدى الشركات العائلية التي يقودها رؤساء تنفيذيون تبلغ أعمارهم 70 عاماً وما فوق.
ما سر تفوق الشركات العائلية في إيطاليا؟
لكن ما تفسير هذا التفوق للشركات العائلية؟ يقول كارلو سلفاتو، أحد المشرفين على المشروع، إن بعضاً من هذه الفوارق يعود إلى الطابع العائلي المتجذر في بنية الشركات العائلية. فقد أثبتت هذه الشركات خلال الجائحة قدرةً أكبر على الصمود مُقارنةً بغيرها، ويرجع ذلك بجزء منه إلى استعداد أفراد العائلة لبذل تضحيات أكبر، وبجزء آخر إلى الروابط الوثيقة التي تجمعهم بالموردين، بل وحتى ببعض المنافسين، سواء كانت علاقات قرابة أو صداقة.
إلا أن سلفاتو أشار أيضاً إلى تحوّل إداري عميق، تسارَع بفعل الجائحة، بات يتيح لهذه الشركات الجمع بين مزايا الإدارة المهنية والإدارة العائلية.
فقد بدأت هذه الشركات العائلية تستعين بجيل جديد من القادة الذين يحظون بمستوى تعليمي أعلى من سابقيه، وغالباً ما يملكون خبرات مهنية خارج نطاق الشركة العائلية. والأهم أن هذا الانتقال تم في معظم الحالات بسلاسة، مع تجنب الأزمات التي كثيراً ما رافقت انتقال القيادة من جيل إلى جيل في الماضي.
إذ تفوقت الشركات التي انتقلت القيادة فيها من جيل إلى جيل بين عامَي 2013 و2022 على تلك التي لم تشهد مثل هذا التحوّل، بنسبة 7.4% على صعيد الإيرادات، و3.5% على صعيد العائد على حقوق الملكية، و11.5% على صعيد معدل النمو السنوي للأصول الثابتة.
نحو 8% من هذه الشركات أيضاً فتحت أبوابها لرؤوس أموال خارجية، إما من خلال بيع حصص أقلية، أو الإدراج في سوق الأسهم، أو نقل السيطرة إلى أطراف ثالثة. وقد أدى ذلك إلى تحسن ملحوظ في الأداء، لا سيما في حالتي الإدراج أو بيع حصص الأقلية، ولكن من الواضح أنه لا يمكن الذهاب في هذه الإستراتيجية بعيداً من دون تهديد الطبيعة العائلية للشركة.
معالجة مكامن الضعف واستثمار نقاط القوة
تبرز الصورة التي ترسمها دراسات جامعة "بوكوني" عن قطاع الشركات العائلية في إيطاليا حيوية وتجدداً، لا ركوداً وانحداراً. فقد باتت المناصب القيادية تضم عدداً أكبر من المديرين القادمين من خارج العائلة ومن النساء، فيما تراجعت ظاهرة ترفيع الشباب لمناصب أكبر من مؤهلاتهم. وقد انخفضت نسبة الرؤساء التنفيذيين دون سن الـ50 من 31.3% في 2013 إلى 16.9% اليوم، في حين توقّف النمو في نسبة المديرين الذين تجاوزوا السبعين.
ورغم أن إيطاليا لا تزال متأخرة عن معظم دول أوروبا من حيث نمو الإنتاجية، تشير البيانات إلى أن المشكلة لا تكمن في الشركات العائلية، بل في تضخم القطاع العام المحصّن، والنظام السياسي القائم على الزبائنية، وتراجع التنمية في جنوب البلاد.
تحمل نتائج دراسات "بوكوني" دلالات أوسع على صعيد نظريات الإدارة. فكثير من الناس لا يزالون يؤمنون أن الرأسمالية تسير نحو نهاية تاريخية واحدة محتومة، تتمثل بانتصار للنموذج الأنغلوساكسوني القائم على الشركات العامة وأسواق الأسهم القوية. غير أن الشركات العائلية تُثبت أنها تتمتع بميزات حقيقية تتفوق بها على نظيراتها العامة، خصوصاً في ما يتعلق بالصبر والولاء والمرونة.
كما أنها أكثر ملاءمةً لقطاعات معينة، مثل السلع الفاخرة والصحافة. والأهم أنها باتت تُتقن التعامل مع نقاط ضعفها، وتعرف كيف تستثمر مكامن قوتها. إذ يسهل على الشركات العائلية تقليد مزايا الشركات العامة، في حين يصعب على تلك الأخيرة أن تستنسخ ما يميّز النموذج العائلي.
وباختصار، فإن فكرة وجود "نهاية حتمية لتاريخ الشركات" ليست مقنعة أكثر من فكرة وجود نهاية لتاريخ البشرية نفسها.
خاص بـ "بلومبرغ"