أين أخبئ «فلوسي»؟
الناس في حيرة من أمرها. ولا يختلف في هذا أصحاب الودائع الكبيرة او الصغيرة. الناس في الغرب بدأوا يحسون أن المصارف بدلا من أن تقدم خدمة لهم صاروا هم الذين يقومون بخدمتها.
عندما وصلنا إلى مرحلة بدأ الناس فيها يقرضون فلوسهم (ودائعهم) للمصارف مجانا، لم يدر في خلد الكثيرين أننا على وشك الولوج في سابقة لم يشهدها التاريخ.
نحن الآن ربما على أبواب فصل من فصول الرأسمالية التي قد يدفع فيها صاحب الدين (المقرض) مستحقات (فائدة) للمدين (المقترض).
في بعض الدول الغربية اليوم ومنها السويد معدلات الفائدة سلبية، أي تحت الصفر. وهذا معناه أن ملايين المودعين الذين يقدمون أموالهم كقروض للمصارف يفعلون ذلك في سبيل الله.
ومضى نحو 18 شهرا على قرار البنك المركزي السويدي على خفض معدل الفائدة إلى ناقص 0.1 في المائة وفي كل هذه الفترة لم تدفع المصارف فلسا واحدا للقروض (الودائع) التي قدمها الناس لها وهي تصل إلى مليارات ومليارات الدولارات.
تخفيض الفائدة الرئيسة سلبيا له منافعه الاقتصادية. في حالة السويد مثلا المصارف تدفع فائدة بنسبة 0.1 في المائة عندما تقترض من البنك المركزي ولكنها تستوفي ما يصل إلى 2.5 أو أكثر في المائة عند قيامها بتقديم القروض.
بيد أن المصارف لا تدفع فلسا واحدا عندما تقترض من الأفراد (المودعين) رغم أنها تستثمر أموالهم. بمعنى آخر أن الأفراد يودعون أموالهم في المصارف كقروض مجانية ومن ثم يقترضونها من المصارف ذاتها بفوائد عالية لشراء العقار والسيارات وتسيير أمور تجارية وصناعية وحياتية أخرى.
هذه حالة جديدة تماما. النظام الرأسمالي مبني أساسا على اقتناص الفرصة والحصول على "فائدة" عن أي نشاط اقتصادي. وفجأة نرى أن النظام هذا يلغي مبدأ "الفائدة" عن أهم نشاط اقتصادي في عجلته. والنظام الرأسمالي مشهود له دوره في الاستغلال. ولكن من يعاني هذا الاستغلال؟ التاريخ يشهد أن المستغلين (بفتح التاء والغين) هم في الغالب الطبقات الضعيفة وليس المؤسسات ذات السلطة والقوى.
أغلب الناس الذين اقترضوا ويقترضون من المصارف يربطون نسبة الفائدة على قروضهم لفترات طويلة خشية ارتفاعها. نسبة كبيرة من القروض التي منحتها وتمنحها المصارف يربطها أصحابها بسعر فائدة ثابت أعلى بكثير من المتداول.
سعر الفائدة في حالات كهذه قد يصل إلى 7 في المائة. وهنا في الإمكان أن نتصور الأرباح الخيالية التي تجنيها المصارف أولا عند الاستدانة من البنك المركزي بمعدل فائدة متدن جدا ومن ثم عند الاستدانة من الناس الذين يودعون فلوسهم لديها دون مقابل.
والمصارف في الغرب تشكل قوة ضغط لا يستهان بها. وأخيرا وقعت وسائل الإعلام تحت رحمتها.
عندما حاول بعض الناس سحب ودائعهم من المصارف وخزنها في أماكن أخرى بعد أن رفضت المصارف منح أي فائدة عليها، حدثت سرقة أو سرقتين للأموال التي سحبها أصحابها.
هاتان السرقتان جرت تغطيتهما بشكل منقطع النظير يرقى في كثير من تفاصيله التغطية التي تعقب عملية انتحارية في الغرب إلى درجة بدأ الناس يخشون حتى التفكير بسحب ودائعهم.
ومن ثم واستجابة إلى طلب المصارف أخذت المحال التجارية والجباية بأشكالها كافة ترفض التعامل بالنقد. وهذا معناه يجب على الناس أن يودعوا فلوسهم في المصارف مهما فعلت المصارف بهم كي يحصلوا على بطاقات الائتمان.
وآخر واجهة للاستغلال هذا وردت قبل أيام عندما أعلن رويال بنك أوف سكوتلند "آر. بي. إس" RBS وبنك ناتويست Natwest البريطاني أنهما قد يفرضان معدل فائدة سلبيا على الودائع التي بحوزتهما إن استمر بنك إنجلترا The Bank of England في خفض سعر الفائدة، أي أنهما سيستقطعان نسبة مئوية عن الودائع لديهما.
لم يقم بهذا العمل أي مصرف حتى الآن ـــ وقد لا ينفذ هذان المصرفان تحذيرهما ــــ بيد أن الناس بدأت حقا تخاف على فلوسها بعد أن ظهر ألا مفر لها غير منحها كقرض دون فائدة للمصارف واليوم هناك تهديد أن المصارف قد تستقطع منها مبالغ لقاء إيداعها لديها.
ربما هذه أول مرة في التاريخ يقع فيها الدائن أو المقرض تحت رحمة المدين أو المقترض فقط لأن لا مكان له يخبئ فلوسه فيه غير جيوب المدين.