لماذا الخشية من ضمور النقد؟

دخلت بعض الدول الأوروبية عصر التداول الإلكتروني من أوسع أبوابه. في بعضها ــ الدول الإسكندنافية مثلا ــ بدأ النقد يختفي تدريجيا من الوجود.
ويبدو أننا مقبلون على عصر ستختفي فيه النقود. والنقود بالفعل آخذة في الضمور.
في دول مثل فنلندا والنرويج والدنمارك والسويد صار النقد عبئا ثقيلا.
الحكومات في هذه الدول مصممة على ألا يبقى أثر للعملة الورقية والنقدية. وهي آخذة في الانحسار. اليوم يرفض كثير من المحال التجارية الكبيرة والصغيرة والمصالح الخدمية العامة والشركات تسلم النقد من قبل الزبائن. الدفع حتى إن كان المبلغ زهيدا جدا يكون إلكترونيا. هذه الدول ستتحول في وقت قصير إلى دول بلا نقد.
ولكن ليس الكل فرحين. الناس طوال التاريخ تحب المال وتستأنس وتغبط بالقرب منه وتتحسسه.
النقود مرت بتطورات كثيرة في التاريخ. في فترة ما كان الإنسان يلجأ إلى العظام (العاج مثلا) أو المعادن، لا سيما الثمينة منها ويستخدمها في التداول شأنها شأن النقد اليوم.
والناس طوال العصور لا تقبل بل تقاوم كل من يحاول السيطرة على نقودها. وطريقة خزن النقود وحفظها ترقى إلى طقوس يمارسها البشر ويتشبثون بها.
لم يتغير الأمر كثيرا عندما دخلت العملة الورقية التداول. العملة بأي شكل كانت وبغض النظر عن المادة التي تتكون منها تحافظ على أهميتها لدى البشر.
ومن هنا نلاحظ بوادر مقاومة لدى كثيرين إن في الدول الإسكندنافية أو غيرها من الدول المتطورة لحرمانهم من ممارسة ما يرونه حقا من حقوقهم بالحفاظ على نقدهم واستخدامه وخزنه بالطريقة التي يشاؤون.
وذهب بعضهم بعيدا إلى القول إن فرض التداول الإلكتروني ما هو إلا وسيلة أخرى من وسائل السيطرة من قبل أصحاب السلطة على مصائر الناس.
والناس في الغرب بصورة عامة تمقت المصارف وترى فيها واجهة للتحكم في مصائرهم وأموالهم.
النظرة السلبية هذه برزت بعد الأزمة المالية العالمية في عام 2008، التي كادت أن تطيح بالنظام المصرفي الرأسمالي برمته، لولا تدخل الحكومات لإنقاذها.
عندما يفلس الأفراد أو الشركات في الغرب تتركهم الحكومات في العراء. عندما أفلست المصارف، قامت الحكومات “بنهب” مواطنيها لجعل المصارف تقف على قدميها مرة أخرى.
وخروج النقد بأشكاله المختلفة عن التداول يرى فيه البعض منح مزيد من السلطة للمصارف، ومن خلالها تمكين الدولة التدخل مباشرة بواسطة أجهزتها المخابراتية في كل تفاصيل الحياة بالنسبة للمواطن العادي، ومن ضمنها أبسط عملية شرائية يقوم بها.
كنا سابقا نتحكم في فلوسنا. نحفظها أينما نشاء ونودعها أينما نشاء. وعند الشراء أو البيع كان بإمكاننا إخفاء ذلك عن الأعين الرقابية للسلطة.
قد لا نشعر نحن الناس العاديين، إلا أن بطاقة الائتمان مثلا لا تبقي أي استقلالية لنا. من خلالها تعرف السلطة ليس أين نحن، بل حتى ما اشتريناه وما قمنا به من عمليات تجارية.
ومن خلال هذه البطاقة يدرس المحللون في الأجهزة الاستخباراتية ميولنا ونفسياتنا ومن خلالها يتمكنون ليس معرفة كيف ننفق فلوسنا، بل مكامن أنفسنا وسيكولوجيتنا.
واليوم بإمكان السلطة متمثلة في المصارف السيطرة على مالنا الإلكتروني بالحجر على بطاقة الائتمان وتغدو بطاقة لا تساوي البطاقة التي نحتفظ بها بعد ركوب سيارة أجرة ــ هذا إن شكوا في كوننا لا نتصرف حسب ما يريدونه لنا.
لا أظن أن كثرة الشكاوى ستجعل الحكومات في البلدان الفائقة التطور تتخلى أو تكبح جماح خططها لإلغاء النقد.
وما زاد الطين بلة، أن الناس لم تعد تستفيد من وجود فلوسها لدى المصارف. اليوم الفائدة سلبية، وقد يجبر الناس على دفع مبالغ محددة للمصارف عن مدخراتهم بدلا من أن تقدم هي لهم مبلغا من المال لقاء استخدامها.
وفي غياب النقد لا حيلة لك إلا أن تبقي مالك كله لدى المصرف.
وإن حدث ما وقع في قبرص مثلان فالمصارف والسلطة قد يتآمرون على الاستيلاء على جزء منها لدفع الديون الحكومية أو المصرفية المتراكمة، أو إرضاء لسلطة أكبر وشركات ائتمان ومصارف ذات سطوة تريد فرض إرادتها.
أين تضع مالك إذا؟ السؤال موجه للمواطن العادي الذي يحرم نفسه متع الحياة من أجل ادخار الفلس الأحمر لليوم الأسود.
الفلس الأحمر هذا قد تستولي عليه السلطة في يومها الأسود كما حدث في قبرص وأماكن أخرى.
أكثر مقاومة شرسة لهذا الوضع جرت في اليابان عندما شعر الناس بأن وجود نقودهم في المصارف صار أداة من أدوات السلطة وسياستها المالية.
عندما تبنت اليابان سعر الفائدة السلبية، هرع اليابانيون من المواطنين البسطاء لسحب مدخراتهم. وقالت الصحافة إنه تم شراء كل خزانات النقود المتوافرة في الأسواق، واضطر التجار لاستيراد وشراء المزيد لتلبية الطلب.
ولكن حتى حق حفظ نقودنا التي كسبناها بعرق جبيننا يريدون أخذه منا. في الدول الإسكندنافية أخذت السلطة والمصارف تنذر الناس بأن العهد الذي كان فيه بإمكانهم حفظ نقودهم في خزائنهم ومحفظاتهم وتحت مخداتهم قد ولى.
إنهم يخططون لإلغاء النقد كما عرفنا وعرفته الأجيال قبلنا. وضخها مبالغ هائلة جدا لوقف السقوط عند التململ والشكوى الطقوس التي يستخدمها البشر، لا بل حتى في التعاملات التجارية البسيطة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي