داود أوغلو يقتحم أبواب أوروبا
الدبلوماسية ميزتها الهدوء. الصبر ميزة أخرى مهمة. أما المعرفة والحكمة وبعد النظر وقراءة التاريخ والحاضر بتعمق ضمن الإمكانات المتاحة فهذه خصال لا بد منها للدبلوماسي الناجح.
أحمد داود أوغلو رئيس وزراء تركيا الحالي قد جمع هذه الخصال وزاد عليها.
في الصحافة الغربية يطلقون عليه أحيانا صفة learned. أقرب ترجمة عربية للمفردة الإنجليزية هذه هي كلمة "متبحر". وهذا النعت نطلقه في الغالب على العلماء والأساتذة والأكاديميين الذين يلمع نجمهم ويصبحون حجة في حقلهم.
حالفني الحظ أن أسمع لداود أوغلو مرتين. مرة في ندوة في أوروبا حيث كان المتحدث الرئيس فيها.
المرة الثانية كانت في الشرق الأوسط ضمن منتدى إعلامي كبير حضره حشد من العلماء والصحافيين والسياسيين والمثقفين العرب والأجانب.
في كل مرة - وكان حينها وزيرا للخارجية ـــ أظهر داود أوغلو أنه قد هضم أولا تاريخ بلاده لا سيما العثماني منه ومن ثم التاريخ الإسلامي بقديمه ووسيطه ومعاصره.
وفي كل مرة كان يتخذ الماضي عكازة لتفسير الحاضر والعمل الحثيث لتحسينه.
كان يستشهد كثيرا من الذكر الحكيم والحديث والتاريخ لا سيما في كلمته في الشرق الأوسط.
بيد أن همه كان الحاضر. الاستشهاد بالتاريخ لم يكن وسيلة للعودة إليه أبدا، بل تذكيرا لشحذ الهمم واللحاق بركب الحضارة والتمدن.
أنا هنا لست في صدد تقييم سياسة داود أوغلو الذي ترك بصمات واضحة على خريطة الشرق الأوسط. فهو كان المستشار والشخصية الأقرب لرئيس الوزراء السابق ــــ ورئيس الجمهورية الحالي ــــ رجب طيب أردوغان قبل تبوئه منصب وزير الخارجية في عام 2009 ومن ثم منصب رئيس الوزراء في عام 2014.
السياسة دهاء وحكمة ومصالح. وإن كانت المصالح الوطنية الاستراتيجية تأتي في مقدمة أولويات أي سياسي، فداود أوغلو يعد مدرسة في هذا المضمار.
وفي ظني فإن نجمه كمتبحر في التاريخ والثقافة والسياسة وصراع الحضارات برز لا بل سطع في محادثاته الأخيرة مع زعماء أوروبا المنضوين تحت خيمة الاتحاد الأوروبي وبينهم ثلاث دول تعد من الدول العظمى في العالم ــــ بريطانيا وفرنسا وألمانيا.
وأنت تقرأ سيل التقارير الإخبارية لتغطية هذه المحادثات التاريخية، لا بد أن يدور في مخيلتك ــــ إن كنت مطلعا على التاريخ ــــ صور لسلاطين عظام من بني عثمان وهم يطرقون أبواب أوروبا.
الفرق أن السلاطين كانوا يطرقونها بالجيوش والسلاح. أما داود أوغلو يريد فتحها بالدبلوماسية.
السلاطين فشلوا في الوصول إلى مبتغاهم عسكريا. أما داود أوغلو فيبدو أنه قاب قوسين أو أدني إلى مبتغاه دبلوماسيا.
كان البعض يتصور أن وجود أكثر من مليونين ونصف المليون لاجئ سوري في تركيا سيكون عبئا على الحكومة والبلد.
إلا أنه - وبحكمة داود أوغلو ــــ صار عبئا على الغرب.
الغرب له ضلع كبير في كل المآسي التي تعانيها المنطقة.
داود أوغلو، بحنكته الدبلوماسية، يبدو أنه سيكسب ما فشل أجداده السلاطين في تحقيقه.
فهو حصل على تنازلات كثيرة وعديدة من الغرب لوقف تدفق اللاجئين إلى دوله.
ولكن أكبر إنجاز له هو فتح أبواب أوروبا على مصراعيها لتدفق المواطنين الأتراك إليها. وهو مصر على كسب هذه الجولة بحيث أي اتفاق لا بد أن يسمح للمواطن التركي دخول دول السوق الأوروبية المشتركة، حيث المال والشغل والصناعة والتكنولوجيا والعلم والمعرفة والرخاء والثراء.
وداود أوغلو داهية حيث فرض على الأوروبيين قبول لاجئ سوري من بلاده مقابل طرد أي مهاجر من أوروبا إلى تركيا. معادلة لا يتقنها إلا دهاة السياسة والدبلوماسية.
قليل من الناس يفقهون معنى أن يفرض سياسي مشرقي على كبار الساسة في الغرب معادلة مثل هذه. ليس هذا فقط بل على الغربيين أن يقدموا لتركيا مبلغا من المال عن كل مهاجر يطردونه ويطلبون من تركيا استقباله.
الكل في تركيا في ترقب. الكل ينتظر اليوم ــــ ويبدو أنه قريب ــــ الذي فيه تفتح أوروبا أبوابها كي يتدفق إليها أفواج المواطنين الأتراك دون تأشيرة ودون إعاقة وكأنهم مواطنون أوروبيون.
حلم راود الأتراك لقرون وهم اليوم يحققونه والفضل كل الفضل يعود إلى "المتبحر" داود أوغلو.
وكي نعلم كم يسبق هذا "المتبحر" غيره من السياسيين في الشرق الأوسط، لنقارب وضع تركيا بكل من لبنان والأردن مثلا.
في كلا البلدين هناك ملايين اللاجئين السوريين. وإن أخذنا نسبة عدد السكان إلى عدد اللاجئين في الحسبان، يشكل اللاجئون السوريون فيهما كثافة سكانية أكثر بكثير من تركيا.
ولكن لا أظن أن أيا من البلدين سيتمكن من انتزاع 1 في المائة من التنازلات التي حصل عليها داود أوغلو.
أمة تديرها عقول هكذا من الصعب انكسارها.