الوضع المائي في المملكة «6» .. الطلب الزراعي

بعد أن تحدثنا عن مصادر المياه في السعودية ـــ وهي على الترتيب: المياه الجوفية الأحفورية، المياه الجوفية المتجددة، المياه السطحية، مياه البحر المعالجة، وأخيرا (مياه الصرف المعالجة)، نتحدث الآن عن أوجه صرف هذه المياه. رأينا في المقال السابق أن 2 في المائة من مجمل المياه يذهب للجانب الصناعي، في حين يذهب 10 في المائة للجانب السكني. وهذا يعني أن 88 في المائة من كل الماء المستخدم في السعودية ( أو 22.8 مليار متر مكعب سنويا) يذهب في الزراعة.
عندما نقول إن هذا الماء يذهب في الزراعة فنحن نتحدث عن الماء الذي يستخدم في زراعة وري المحاصيل من الفواكه والخضراوات والحبوب، والماء المستخدم في سقيا الماشية ـــ والأهم والأخطر ــ في زراعة الأعلاف لهذه الماشية. أي أنه الماء الذي يصرفه الإنسان لإنتاج غذائه من اللحوم والخضراوات والفواكه. لنتأمل هذا الرقم من زاوية أخرى: معدل الاستهلاك الزراعي للفرد الواحد في السعودية يبلغ 2.170 لتر في اليوم وهو رقم عال جدا (أرقام 2006). وبالمقارنة يبلغ معدل الاستهلاك الزراعي للفرد الواحد في الصين مثلا 745 لترا في اليوم (2007) وفي ألمانيا 213 لترا (2007) وفي البرازيل 444 لترا يومي (2006). وهذا يعني أننا زراعيا نحتاج كمعدل إلى ثلاثة أضعاف الماء المستهلك في الصين وعشرة أضعاف الماء المستهلك في ألمانيا مثلا لإنتاج غذاء شخص واحد! لكن لماذا؟ هذا الإسراف قد يكون نتيجة أحد سببين (أو كليهما): الأول أننا ببساطة نزرع النباتات الخطأ (الشرهة للماء وغير المناسبة لهذه البيئة الصحراوية) والثاني أننا غير فعالين inefficient في طرق الري.
السبب الأول يتضح بجلاء عند معرفة نوع المنتجات الزراعية المستهلكة للماء بشراهة أكبر من غيرها كالأعلاف والقمح. في الثمانينيات من القرن الماضي اجتاحت السعودية ــ ولسبب لا أعرفه تماما ــ رغبة عارمة في زراعة القمح في كل مكان تقريب، والهدف المعلن كان: تحقيق الأمن الغذائي للسعودية. كيف يمكن أن يكون الاكتفاء من القمح أمنا غذائيا؟ القمح ليس الغذاء الرئيس للفرد السعودي. القمح أيضا يزرع في دول عدة وبالتالي فإن احتمالية انقطاعه لأي سبب "سياسي أو اقتصادي أو غيره" ضعيفة.
تم تشجيع المواطنين والمستثمرين الزراعيين للتوجه نحو القمح بتقديم تسهيلات ودعم كبيرين. ازداد الإنتاج السعودي من القمح حتى أصبحت المملكة من أكبر عشر دول منتجة عالميا. ثم تم رفع الدعم تدريجيا وصرف النظر عن هذا المنتج بعد سنوات قليلة فقط بعد أن اتضح بجلاء خطأ هذه الاستراتيجية. لكن ما حدث للمياه الجوفية التي كانت المصدر الأساس لري هذه المزارع هو ضرر لا يمكن تعويضه للأسف. لا يستطيع أحد تحديد كمية المياه التي استنزفت لهذا الغرض ــ فهذا أمر أقرب للمستحيل ــ لكن في الوقت نفسه لا يستطيع عاقل أن ينكر الضرر الذي لحق بهذه المياه والانخفاض الواضح في مستوى المياه.
بعد القمح، جاء الدور على أعلاف الحيوانات وهي أيضا شرهة للماء. وكما حصل مع القمح مسبقا، تم إيقاف هذه الزراعة لاستنزافها الكبير للمياه الجوفية. هذه القرارات بزراعة منتجات معينة ثم إيقافها، تبين بوضوح الحاجة الماسة لوضع خريطة زراعية متكاملة للسعودية. هذه الخريطة يجب أن توضح نوعية المنتجات الزراعية وأماكن زراعتها وطرق ريها ــ ويجب أن تكون من مياه الأمطار قدر المستطاع وليس من المياه الجوفية. العامل الرئيس في اختيار أي منتج لتتم زراعته محليا يجب أن يكون الماء ثم الماء ثم الماء. لو تم احتساب قيمة اقتصادية عادلة لكل لتر من الماء لاكتشفنا أن زراعة الغالبية العظمى من المنتجات في السعودية غير مجدية اقتصاديا. فلا يمكن أن يكون سحب كميات كبيرة من المياه الجوفية العميقة في بلد صحراوي لزراعة أعلاف الحيوانات قرارا اقتصاديا سليما في حين يتم ضخ المليارات لتحلية ماء البحر ثم ضخه لآلاف الكيلومترات بسبب عدم وجود ماء لشرب!
أما بالنسبة إلى السبب الثاني لزيادة الاستهلاك المائي زراعيا فهو انعدام الفعالية في ري المحاصيل. يقدر استهلاك الماء في الزراعة محليا بـ 20.1 مليار متر مكعب وهو رقم كبير جدا. ما يخيف أكثر هو ثقة كثير من الباحثين بأن الرقم الفعلي أو الحقيقي أكبر من هذا بـ 30 في المائة على الأقل. السبب بسيط ومنطقي في الوقت نفسه وهو عدم وجود آلية واضحة ودقيقة لمعرفة العدد الحقيقي للآبار الزراعية أو كمية الضخ من كل بئر.
خلاصة القول أن الوضع المائي المحلي يحتاج إلى اهتمام، والمتهم الأول في هذا هو الاستهلاك الزراعي الجائر وغير المقنن. الحاجة ماسة جدا لإعادة النظر في كثير من القرارات والمشاريع الزراعية. الأولوية في القرارات الزراعية يجب أن تكون للماء. بالإمكان زراعة هذه المحاصيل الشرهة للماء في دول أخرى ــ غنية مائيا ــ عن طريق الاستثمار الزراعي ثم نقلها إلى المملكة. لكن من المستحيل جلب الماء من الخارج. يمكن أن نعيش في هذا البلد الصحراوي الجاف دون قمح، لكن لا يمكن أن نعيش دون ماء.

المزيد من الرأي