التضخم.. والحلول المستوردة!!
قبل أيام اتجهت إلى إحدى الصيدليات لشراء كمية من الحليب، من نوع (سيميلاك غين الجديد) حجم 900جرام, فوجدته بسعر 47 ريالاً، ثم وجدته في الصيدلية الأخرى بسعر 50 ريالاً، ثم وقفت عليه في سوق تجاري بسعر 53 ريالاً! لقد رأيت هذا التفاوت السعري لهذا المنتج المهم في يوم واحد!! ربما يكون هناك مبرر لتفاوت الأسعار، باختلاف الجهة الموردة، أو بوجود تفاوت كبير في الوقت الذي تم فيه شراء البضاعة.. إلخ، ولكنه في الوقت ذاته مؤشر على عدم انضباط التجار في التقيد بالأسعار، ولا سيما في ظل تأكيدات وزارة التجارة على مراقبة الأسعار، ولا سيما في مثل هذه السلعة التي تمس إليها حاجة الأطفال الرضع في اليوم عدة مرات. ولا ريب أننا طرف في هذه المشكلة، لأننا اكتفينا بحليب البقر عن حليب الأم، حتى أضحت الأبقار أمهات لأطفالنا من الرضاعة!!
إن عالمنا اليوم يعاني من التضخم، بكل أشكاله وصوره: تضخم معرفي, تدفع به دور النشر والمكتبات في صورة كتب ومطبوعات، ومع وفرتها لا تجد فيها ما يشبع نهمتك، ويغذي ثقافتك، لأن ما يحمل منها طابع التميز والإبداع أقل من القليل! وتضخم فكري، وآخر حزبي... إلخ، تضخمات متنوعة لم يعرها الناس اهتماماً يذكر، إلا أنه حينما أطل التضخم النقدي برأسه، تحسس الناس جيوبهم؛ وتلمسوا خزائنهم، لأن المال عندهم عديل الروح، وربما أغلى ثمناً!
ومع إطلالة التضخم (البطيء) الذي حل ضيفاً ثقيلاً علينا منذ أشهر، أخذ المتخصصون في مجال الاقتصاد يطرحون حلولاً كثيرة لهذه المشكلة، والغريب أن يكون الحل الوحيد عند بعض هؤلاء هو الربا! وذلك من خلال فكرة طرح السندات ورفع سعر الفائدة لامتصاص السيولة النقدية، وهنا أتساءل كيف يمكن للربا الذي يمحق المال ويمحق معه البركة أن يكون وسيلة لعلاج هذا المرض، أعني مرض التضخم، وتورم الأسعار؟ ونحن نعلم جيداً أنه مهما أسهم هذا الحل في تخفيف هذا التورم، فإنه سيحول الورم من حميد إلى خبيث، ومن ثم سيعرض الحياة المالية إلى المحق، وانحسار البركة (يمحق الله الربا)، وقد حاول كثير من النظم الاقتصادية الوضعية إيجاد حلول جذرية للقضاء على التضخم، من خلال فكرة السندات ورفع سعر الفائدة، فلم تنجح نجاحاً يحل المشكلة من جذورها، بقدر ما عززت من مكانة الربا الذي بدأت تلفظه بعض الدول الغربية، التي كانت تصدره في زمن مضى.
لقد درس مشكلة التضخم, مجمع الفقه الإسلامي - الذي ترعاه منظمة المؤتمر الإسلامي - في دورته الثانية عشرة في الرياض، وبين أسبابها، وآثارها، وألمح إلى بعض الطرق التي تسهم في علاج هذه المشكلة، وأصدر توصيات مهمة بهذا الخصوص، شارك في صياغتها علماء وخبراء ومتخصصون، ويمكن تلخيص أبرز هذه التوصيات التي صاغها المجمع في النقاط الآتية:
ـ ننصح الشعوب الإسلامية بالالتزام الكامل بالقيم الإسلامية في الاستهلاك، لتبتعد مجتمعاتنا الإسلامية عن أشكال التبذير والترف والإسراف التي هي من النماذج السلوكية المولدة للتضخم.
ـ زيادة التعاون الاقتصادي بين البلدان الإسلامية، وبخاصة في ميدان التجارة الخارجية، والعمل على إحلال مصنوعات تلك البلاد محل مستورداتها من البلدان الصناعية، والعمل على تقوية مركزها التفاوضي والتنافسي تجاه البلدان الصناعية.
ـ دراسة مدى جدوى العودة إلى شكل من أشكال ارتباط العملة بالذهب كأسلوب لتجنب التضخم.
ـ إدراكاً لكون تنمية الإنتاج وزيادة الطاقة الإنتاجية المستعملة فعلاً من أهم العوامل التي تؤدي إلى محاربة التضخم في الأجل المتوسط والطويل، فإنه ينبغي العمل على زيادة الإنتاج وتحسينه في البلاد الإسلامية، وذلك عن طريق وضع الخطط واتخاذ الإجراءات التي تشجع على الارتفاع بمستوى كل من الادخار والاستثمار، حتى يمكن تحقيق تنمية مستمرة.
ـ دعوة حكومات الدول الإسلامية إلى العمل على توازن ميزانياتها العامة ( بما فيها جميع الميزانيات العادية والإنمائية والمستقلة التي تعتمد على الموارد المالية العامة في تمويلها) وذلك بالالتزام بتقليل النفقات وترشيدها وفق الإطار الإسلامي. وإذا احتاجت الميزانيات إلى التمويل، فالحل المشروع هو الالتزام بأدوات التمويل الإسلامية، القائمة على المشاركات والمبايعات والإجازات. ويجب الامتناع عن الاقتراض الربوي، سواء من المصارف والمؤسسات المالية، أم عن طريق إصدار سندات الدين.
ـ مراعاة الضوابط الشرعية عند استخدام أدوات السياسة المالية، سواء منها ما يتعلق بالتغيير في الإيرادات العامة، أم بالتغيير في الإنفاق العام، وذلك بتأسيس تلك السياسات على مبادئ العدالة والمصلحة العامة للمجتمع، ورعاية الفقراء، وتحميل عبء الإيراد العام للأفراد حسب قدراتهم المالية المتمثلة في الدخل والثروة معاً.
ـ ضرورة استخدام جميع الأدوات المقبولة شرعاً للسياستين المالية والنقدية ووسائل الإقناع والسياسات الاقتصادية والإدارية الأخرى، للعمل على تخليص المجتمعات الإسلامية من أضرار التضخم، بحيث تهدف تلك السياسات لتخفيض معدل التضخم إلى أدنى حد ممكن.. (ثم بين المجمع أن هناك حلولاً مقترحة لعلاج التضخم، رأى تأخير البت فيها إلى دورة أخرى).
هذه أبرز التوصيات الخاصة بالتضخم، التي أبدع في صياغتها علماء وخبراء في مجال الفقه والاقتصاد، وهي من الأهمية بمكان، وقد أسس مجمع الفقه الإسلامي برعاية كريمة من السعودية؛ وذلك ليدرس مشكلات الحياة المعاصرة، ويجتهد فيها اجتهاداً أصيلاً فاعلاً، بهدف تقديم الحلول النابعة من التراث الإسلامي, مع الأخذ في الاعتبار كل ما يمكن الاستفادة منه، من معطيات هذا العصر، بما لا يتنافى مع تعاليم ديننا الحنيف، والمجمع بقراراته وتوصياته رافد كبير من روافد النهضة في بلادنا الإسلامية، يجنب الأمة الكثير من الحلول المستوردة التي ربما تكون جزءاً من المشكلة، لا طرفاً في الحل.