صناعة المحتوى الرقمي فرص تتجاوز الشاشة
يشهد قطاع الإعلام والترفيه العالمي تحولًا غير مسبوق تقوده ثورة الذكاء الاصطناعي، الذي أصبح اليوم العصب المحرك لصناعة المحتوى، ليس فقط في إنتاجه، بل في إدارة عملياته وتطوير نماذج أعماله. هذا التحول يعيد رسم خريطة الصناعة، فاتحًا الباب أمام فرص اقتصادية واستثمارية ضخمة، لكنه يفرض في الوقت نفسه تحديات تقنية وتشريعية تتطلب حلولًا مبتكرة.
ووفقًا لتقرير شركة PwC العالمية، بلغ حجم إيرادات صناعة الإعلام والترفيه في 2024 نحو 2.9 تريليون دولار، محققًا نموًا سنويًا بنسبة 5.5% مقارنةً بـ2023 الذي سجل 2.8 تريليون دولار.
وتشير التوقعات إلى مواصلة القطاع نموه ليصل إلى 3.5 تريليون دولار بحلول 2029، بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ 3.7%، ما يعكس ديناميكية هذا القطاع ودور الإعلام الرقمي ومنصات البث في قيادة التوسع العالمي.
في السعودية، يبرز قطاع الإعلام كأحد المحركات الرئيسية لرؤية 2030، التي تهدف إلى تنويع الاقتصاد الوطني، وتعزيز القوة الناعمة، وبناء صناعة إبداعية تنافس على المستوى العالمي. وتسعى الهيئة العامة لتنظيم الإعلام إلى رفع مساهمة القطاع في الناتج المحلي الإجمالي إلى 0.8% بحلول 2030، مقارنةً بـ0.57% في 2024، أي ما يعادل 16 مليار ريال، مع استهداف وصوله إلى 42 مليار ريال خلال السنوات المقبلة، بزيادة نحو 40%.
هذا التوجه يستند إلى قاعدة سكانية قوية، حيث يشكل الشباب دون سن 39 عامًا نحو 43% من إجمالي السكان، ما يعكس طلبًا متزايدًا على المحتوى الرقمي، خصوصًا في مجالات مثل الألعاب الإلكترونية، والإنتاج السينمائي، ومنصات البث. هذه التركيبة تمثل فرصة استثمارية واعدة أمام الشركات المحلية والعالمية.
ولتمكين هذا القطاع، أطلقت السعودية مبادرة IGNITE، التي تهدف إلى تعزيز البنية التحتية لسوق المحتوى الرقمي، وتمكين رواد الأعمال، وجذب الاستثمارات العالمية. ومن المتوقع أن تسهم هذه المبادرة في رفع حجم السوق بشكل ملحوظ وترسيخ مكانة السعودية كوجهة إقليمية وعالمية لصناعة الإعلام والإبداع.
كما تبرز الشراكات الدولية كعامل رئيسي لدفع هذا التحول، ومن أبرزها شراكة Netflix مع شركة "تلفاز 11"، التي انطلقت 2021 وأسهمت في رفع جودة الإنتاج المحلي وتوسيع انتشاره عالميًا.
وعلى الصعيد المحلي، يقدم صندوق التنمية الثقافي قروضًا وضمانات تمويلية لدعم الشركات الصغيرة والمتوسطة، على غرار برنامج "كفالة"، ما يسهم في إيجاد بيئة استثمارية محفزة لنمو المشاريع الناشئة.
في الجانب التقني، أحدث الذكاء الاصطناعي ثورة في طريقة إنتاج وتوزيع المحتوى. فقد مكّن المؤسسات الإعلامية من أتمتة عمليات الإنتاج، وخفض التكاليف التشغيلية بشكل كبير.
على سبيل المثال، تقدم شركة Synthesia تقنيات لإنتاج فيديوهات باستخدام مقدمين افتراضيين خلال دقائق، وبتكلفة أقل بنسبة 90% مقارنة بالإنتاج التقليدي. كما طورت شركة Runway أدوات لتحويل النصوص إلى فيديوهات قصيرة، ما يمنح المؤسسات سرعة ومرونة عالية دون الحاجة إلى إستوديوهات ضخمة.
وفقًا لتقديرات شركة BCG الاستشارية، أسهمت هذه التقنيات في خفض التكاليف التشغيلية بنسبة تصل إلى 40%، وزيادة العوائد عبر الإعلانات الموجهة وتحليل سلوك المشاهدين. وقد ظهر أثر ذلك في أداء شركات مثل Netflix، التي سجلت إيرادات بلغت 11.08 مليار دولار في الربع الثاني من 2025.
لكن مع هذه المكاسب تواجه الصناعة تحديات كبرى أبرزها حماية حقوق الملكية الفكرية، حيث يثير استخدام البيانات الضخمة لتدريب النماذج الذكية جدلًا واسعًا عالميًا، كما يشكل انتشار الأخبار المضللة وتقنيات Deepfake تهديدًا لمصداقية الإعلام، ما يتطلب تشريعات صارمة وتنظيمًا محكمًا. إضافة إلى ذلك يفرض التحول الرقمي تغيرات على الوظائف التقليدية، ما يستدعي برامج لإعادة تأهيل الكفاءات البشرية وتزويدها بمهارات جديدة.
لم يعد الاستثمار في الإعلام ترفًا أو خيارًا ثانويًا، بل أصبح محركًا إستراتيجيًا للنمو الاقتصادي وأداة لتعزيز القوة الناعمة للسعودية. فصناعة المحتوى الرقمي تمثل جسرًا يربط بين الثقافة والتقنية ورأس المال، وتفتح آفاقًا تمتد من الإنتاج المحلي إلى الأسواق العالمية.
ومع الرؤية الطموحة والدعم الحكومي، تتجه السعودية لتكون وجهة رائدة لصناعة المحتوى الرقمي، حيث تتحول هذه الصناعة إلى قطاع اقتصادي حيوي واستثمار مستدام يعزز مكانة السعودية إقليميًا وعالميًا.
كاتب ومحلل في شؤون المال والأعمال