كيف توازن البنوك المركزية بين التضخم والتوظيف؟

تتعدد مهام البنوك المركزية، ولكن يظل أكثرها أهمية هو إبقاء التضخم عند مستويات مقبولة اقتصادياً، مع تقديم العون للسياسات العامة المرتبطة بدعم النمو وأسواق العمل. ومن هنا ترسم البنوك تحركاتها، ففي حالة وجود صدمات على جوانب الطلب أو العرض يتدخل المركزي بأدواته لتقديم الدعم. فبعد اندلاع جائحة كورونا ودخول الاقتصادات في مرحلة ركود بسبب الإغلاق، كانت البنوك المركزية حاضرة وبقوة، حيث خفضت أسعار الإقراض إلى مستويات صفرية وفي بعض الأحيان سالبة لدعم الشركات والمستهلكين، بجانب التنسيق مع السياسات المالية لتقديم حزمة تحفيزية لتنشيط الاقتصاد.
وبعد عامين على الجائحة، جاءت الأزمة الروسية الأوكرانية لتؤجج التضخم العالمي، هنا حولت البنوك المركزية أدواتها للسيطرة على ارتفاع الأسعار، فرفعت الفائدة بمعدلات متسارعة، وخفضت المتاح من الأموال في جيوب المستهلكين للإنفاق.
بالتالي فوضع الاقتصاد هو من يفرض على البنوك المركزية السياسات المناسبة. في الولايات المتحدة يتخذ بنك الاحتياطي الفيدرالي قرارته بناء على مؤشرات عدة، مثل التضخم وسوق العمل والنمو الاقتصادي. ومنذ عام 2022 تبنى البنك دورة تشديد نقدي للسيطرة على التضخم وإعادته إلى المستوى المستهدف عند 2%.
خلال تلك الفترة تمتع الاقتصاد بأداء قوى مدعومًا بإنفاق الأسر، وهو ما ظهر على معدلات التوظيف، والنمو الاقتصادي الإيجابي. ولكن مع بدء سوق العمل في الانكماش متأثراً بتباطؤ الاقتصاد والصدمات التجارية والجيوسياسية، فتشير التوقعات أن البنك سيعيد ترتيب أولوياته ليركز على دعم الاقتصاد عبر خفض أسعار الفائدة بداية من سبتمبر الحالي، لإعادة ضخ الأموال في شرايين الاقتصاد وتنشيط أسواق الإنتاج والاستهلاك.
في أوروبا كانت خطوات البنك المركزي الأوروبي أسرع في توجيه الدفة إلى التركيز على الاقتصاد وأسواق العمل وليس التضخم. فقد وصل التضخم إلى مستوياته المستهدفة بالفعل، بينما تعاني الاقتصادات الكبرى في التكتل انكماشا اقتصاديا ناتجا من ضعف الطلب المحلي وانخفاض القدرة التنافسية للصناعات المهمة. وقد خفض المركزي الأوروبي الفائدة إلى مستويات تقترب من 2.2%.
دورة التشديد النقدي الطويلة التي بدأت في 2022 في كثير من الاقتصادات الكبرى باتت تواجه في الوقت الحالي انتقادات كثيرة من الشركات والمؤسسات وصانعي السياسات، حيث أصبحت أسعار الاقتراض المرتفعة تضيف مزيدا من الأعباء على الأداء الاقتصادي، بينما يرغب مسؤولو الاقتصاد في التقاط الأسواق أنفاسها بعد فترة طويلة من تحمل ضغوط ناتجة عن ارتفاع التكاليف.
وعلى الرغم من الانتقادات فقد أكدت التجارب في السنوات الأخيرة، وبالأخص خلال الاضطرابات والصدمات الاقتصادية أن البنوك المركزية تنتهج سياسة متزنة دقيقة وأكثر حرصاً في التعامل مع السياسة النقدية، تهدف في المقام الأول للحفاظ على معدلات الأسعار عند مستويات مقبولة، وتتدخل في حالة وجود مخاطر جدية تهدد المؤشرات الاقتصادية الحيوية وعلى رأسها التوظيف، والإنفاق الاستهلاكي المحرك الأساسي لكثير من الاقتصادات، بجانب النمو الاقتصادي، وتنافسية بيئة الأعمال، وجاذبية البيئة الاستثمارية.
في الختام فقد أثبتت البنوك المركزية مراراً وتكراراً كفاءتها في إدارة السياسة النقدية، عبر تطويع أدواتها لخدمة الوضع الاقتصادي وأولويات السياسات العامة، مع تحقيق أكبر قدر من التوازن بين التضخم وأسواق العمل. ولكن التغيرات في الهيكل الاقتصادي العالمي وتوسع الصدمات التجارية والجيوسياسية قد تحتاج إلى إعادة النظر في تغيير نماذج الأعمال للبنوك المركزية لتكون أكثر سرعة وكفاءة في مواكبة التغيرات واتخاذ القرارات لمعالجة الأزمات الطارئة.
ويظل الدرس المستفاد من التجارب الأخيرة هو أن البنوك المركزية لا تستطيع مُكافحة التضخم بمعزل عن غيرها. حيث يجب أن تعمل جنبًا إلى جنب مع صانعي السياسات المالية ليس فقط لخفض أسعار الفائدة، ولكن أيضًا لبناء مرونة أسواق العمل دون تأجيج موجة التضخم المقبلة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي