من النفط إلى المناخ .. غطاء لتوزيع النفوذ الاقتصادي

في مطلع التسعينيات، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، دفعت أوروبا بقوة نحو صياغة معاهدة ميثاق الطاقة. كان الهدف حينها واضحًا: حماية استثمارات شركاتها في النفط والغاز داخل روسيا وآسيا الوسطى والقوقاز، وضمان التحكيم الدولي كآلية ردع ضد أي تقلبات سياسية أو تشريعية في تلك الدول.

بدأ الميثاق آنذاك خطوة إستراتيجية تربط اقتصادات ما بعد الكتلة الشرقية بالأسواق العالمية، وتمنح الشركات الغربية مظلة قانونية في بيئة محفوفة بالمخاطر.

لكن بعد أكثر من 3 عقود، انقلب المشهد رأسًا على عقب. الأداة التي صيغت لحماية مصالح أوروبا الخارجية تحولت إلى قيد يهدد قدرتها الداخلية على صياغة سياسات مناخية مستقلة. وعندما قرر الاتحاد الأوروبي في مايو 2024 الانسحاب من الميثاق، لم يكن الأمر مجرد إعلان بيئي، بل إقرار ضمني بأن القواعد التي خدمت مصالح الماضي باتت اليوم عائقًا أمام المستقبل.

الانسحاب لم يكن إذن خطوة رمزية أو أخلاقية، بل استجابة لحسابات اقتصادية عميقة. فالميثاق الذي صيغ لحماية استثمارات النفط والغاز أصبح يقيّد قدرة أوروبا على المنافسة في الاقتصاد الأخضر. ومع إطلاق "الصفقة الخضراء"، سعى الاتحاد إلى إعادة تشكيل بنيته الصناعية وضمان موقع متقدم في سوق الطاقة المتجددة العالمية، ومن غير المنطقي أن يظل أسيرًا لقواعد تعود إلى تسعينيات مختلفة تمامًا في سياقها.

ما كان بالأمس شبكة أمان للشركات، تحوّل اليوم إلى شبكة تكبّل الدول نفسها.

غير أن الانسحاب لم يكن تحررًا كاملًا. فالميثاق يتضمن ما يُعرف بـ"بند غروب الشمس"، الذي يمنح المستثمرين الحق في مقاضاة الحكومات الأوروبية حتى عام 2044 تقريبًا. هذا البند لا يمثل مجرد امتداد قانوني، بل هو تذكير صارخ لأوروبا بأن القواعد التي صاغتها بعد الحرب الباردة لحماية استثماراتها الخارجية، تحولت اليوم إلى شبكة تقيد قدرتها على صياغة سياسات داخلية للمستقبل. وكأن القارة تنظر في مرآة التاريخ: ما كان أداة لترسيخ هيمنتها الاقتصادية بالأمس، أصبح عبئًا يفرض عليها معادلة جديدة، حيث يقاس التحول الأخضر ليس بالتكنولوجيا والتمويل فقط، بل بقدرة الدول على التحرر من شبكات قانونية عابرة للحدود.

وفي المقابل، لم يكن موقف بقية الدول متطابقًا مع أوروبا. فبدل الانسحاب، دفعت قوى صاعدة نحو توسيع نطاق الميثاق ليشمل قطاعات جديدة مثل الهيدروجين واحتجاز الكربون والبنية التحتية الرقمية للطاقة.

لم يكن الهدف إلغاء المنطق القديم، بل إعادة إنتاجه في ثوب جديد يواكب الاقتصاد الأخضر. هنا برزت الصين، التي أصبحت أكبر منتج عالمي للألواح الشمسية والتوربينات، فرأت في التوسيع وسيلة لتحصين نفوذها الصناعي عالميًا.

كما اعتبرت اليابان، المستورد الأكبر للطاقة في آسيا، أن الحماية القانونية ضرورية لمشاريعها المستقبلية في الهيدروجين والأمونيا الزرقاء التي تراهن عليها لتأمين أمنها الطاقي. وحتى تركيا وبعض دول آسيا الوسطى وجدت في التوسيع فرصة لجذب استثمارات تضمن استمرار تدفق رأس المال إليها.

لكن بالنسبة لبروكسل، هذا التوسيع لم يكن بريئًا. فمنح الصين واليابان وغيرهما امتيازات قانونية مشابهة لتلك التي استفادت منها أوروبا قبل 3 عقود يعني ببساطة انتقال أدوات النفوذ من يدها إلى يد منافسيها في السوق الأخضر.

أوروبا لا تريد أن ترى الآخرين يكررون تجربتها السابقة، لأنها تدرك أن ذلك سيحرمها من ميزة إعادة صياغة القواعد بنفسها. لذلك فضّلت الانسحاب بدل الدخول في نظام قد يتحول إلى فخ إستراتيجي جديد.

التحدي لم يتوقف عند هذا الحد. ففي الداخل الأوروبي نفسه، كشفت التجربة عن فوضى تشريعية تجسد التوتر بين الطموح البيئي والضغوط الاقتصادية. فقد نصّ القانون المناخي الأوروبي على خفض صافي الانبعاثات بنسبة 90% بحلول 2040، لكنه سمح للشركات بتحقيق جزء من هذا الهدف عبر شراء اعتمادات كربونية خارجية. هذا الاستثناء وفر متنفسًا ماليًا للصناعات الثقيلة، لكنه أثار جدلًا واسعًا حول مصداقية الالتزامات. ثم جاءت حزمة EU Omnibus التي أعلنتها المفوضية في فبراير 2025 لتبسيط التشريعات المرتبطة بالصفقة الخضراء – من CSRD إلى CSDDD والتصنيف الأوروبي – بعد أن حذرت الشركات من أن التعقيد القانوني بدأ يضعف قدرتها التنافسية أمام الولايات المتحدة والصين.

هكذا يتضح أن أوروبا، تمامًا كما انسحبت من الميثاق عندما شعرت أنه يقيد حركتها، تعيد اليوم صياغة قوانينها الداخلية للسبب نفسه: حماية مصالحها الاقتصادية. فما يبدو للعيان التزامًا مناخيًا صارمًا، سرعان ما يتكشف أنه مرهون بالقدرة على الحفاظ على التوازن الصناعي والتجاري.

الخلاصة أن البيئة، سواء في معاهدة ميثاق الطاقة أو في تشريعات الصفقة الخضراء، لم تعد الغاية النهائية بحد ذاتها، بل غطاءً لإعادة توزيع النفوذ الاقتصادي. ومن النفط إلى المناخ، يظل الاقتصاد هو المحرك الحقيقي وراء صياغة القواعد، داخل أوروبا وخارجها.


مستشار في الشؤون الدولية والإستراتيجيات العالمية

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي