التفاوض .. فن تحويل المصالح إلى قيمة اقتصادية

في النقاشات الاقتصادية والسياسية، يسيطر وهم شائع، أن المصالح المشتركة تكفي وحدها لضمان قيام الشراكات وحماية الاتفاقات. لكن الحقيقة أكثر تعقيداً. فالمصالح، مهما كانت واضحة أو متداخلة، تظل حبراً على ورق ما لم تُترجم عبر التفاوض. التفاوض ليس مجرد آلية لإدارة الخلافات، بل هو فن اقتصادي بامتياز؛ فن إعادة توزيع المكاسب، وخلق القيمة من موارد محدودة، وتحويل الأزمات إلى فرص إستراتيجية.

لنأخذ مثال اتفاق التجارة لأمريكا الشمالية. عام 2018، كان المشهد قاتماً: واشنطن أرادت إعادة كتابة القواعد بما يخدم صناعاتها المحلية، أوتاوا تشبثت بقطاع الألبان، والمكسيك خشيت خسارة أهم أسواقها. كل طرف يمترس خلف مصالحه، وكلفة عدم الاتفاق (Cost of Non-Agreement) كانت ستُقاس بمليارات الدولارات وخسارة أسواق متكاملة. ومع ذلك، لم يكن "الانهيار" قدراً محتوماً. عبر مفاوضات مرهقة وذكية، أعيد توزيع المكاسب وولد اتفاق "USMCA" الذي حافظ على السوق الموحدة وأعاد تعريف الشراكة الاقتصادية. المصالح المشتركة كانت موجودة، لكن التفاوض هو الذي صاغها من جديد ليحافظ على قيمتها.

الوضع نفسه تكرر بين الاتحاد الأوروبي وإندونيسيا. 9 سنوات من المفاوضات العقيمة لم تحسم شيئاً. لكن بمجرد أن دخل عامل الضغط الأمريكي عبر التهديدات الجمركية، تغيّر التوازن، وتسارعت المحادثات حتى خرج اتفاق سياسي. المصالح لم تتغير، لكن التفاوض تحت ضغط خارجي أجبر الأطراف على إعادة ترتيب أولوياتها وصياغة تنازلات متبادلة من خلال المفاوضات.

الدروس لا تقتصر على الحكومات. في قطاع الأعمال، التفاوض كذلك يؤدي دور كبير في تحديد مدى استمرار الشركات في أوقات الأزمات. جائحة كوفيد-19 كانت اختباراً قاسياً. العقود وحدها لم تكن كافية لحماية سلاسل التوريد، بل المفاوضات السريعة مع موردين جدد هي التي أنقذت الشركات من الانهيار. في قطاع الطاقة، قرارات "أوبك+" ليست نتاج مصالح متناغمة، بل نتاج مفاوضات معقدة بين أطراف تسعى كل منها إلى تحقيق أفضلية. لولا هذا التفاوض المستمر، لكانت السوق النفطية تعيش فوضى الأسعار والتقلبات العنيفة.

حتى ما يُعد عبئاً على الورق، كاللوائح البيئية الصارمة، يمكن أن يتحول إلى فرصة استثمارية ضخمة. شركات كبرى تفاوضت بذكاء مع الحكومات والمستثمرين، فحوّلت الامتثال من تكلفة تشغيلية إلى ميزة تنافسية جذبت مليارات الدولارات من الاستثمارات الخضراء.

فالمصالح هي ما تضع الأساس، والتفاوض هو الذي يصنع القيمة ويحولها إلى واقع. ولذا لا يمكن اعتبار أن التفاوض هو مجرد مهارة فنية، بل استثمار إستراتيجي طويل الأمد. في عالم يتغير بسرعة، فمن لا يتقن ويستثمر في فن التفاوض اليوم سواء كان دولة تبحث عن حماية أسواقها، أو شركة تحاول النجاة في أزمات سلاسل التوريد سيجد أن مصالحه، مهما بدت قوية على الورق، تتبخر عند أول اختبار.


مستشارة في الشؤون الدولية والإستراتيجيات العالمية

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي