وعادت شركات "الشيك على بياض".. ما الخطأ المتوقع هذه المرة؟
شركات الاستحواذ للأغراض الخاصة جمعت 11 مليار دولار في النصف الأول من العام الجاري
- استمرار مشكلات قديمة منها "المطلعون من الداخل" تنذر بتجدد موجة الانهيارات.
- الطفرة الحديثة تشهد عودة مؤسسات كبرى للقطاع في مقدمتها "جولدمان ساكس"
- قطاعات المضاربة من العملات المشفرة إلى الشاحنات ذاتية القيادة تتصدر المشهد
بعد الارتفاع المفاجئ في عدد عمليات الإدراج الجديدة في البورصة لشركات الاستحواذ ذات الأغراض الخاصة، يصعب تجاهل مدى قصر ذاكرة وول ستريت المذهل. فقد شهدت هذه الأوعية النقدية موجة ازدهار ثم انهيار مدوٍ بين عامي 2020 و2022، حين قادت التقييمات غير الواقعية وحماس المستثمرين الأفراد نحو شركات لا تحقق إيرادات تُذكر –أو لا تحقق أي إيرادات إطلاقاً– إلى موجة من حالات الإفلاس ودعاوى قضائية من المساهمين وتصفيات مالية موجعة. اليوم، تعود هذه الفئة من الأصول سيئة السمعة بقوة إلى السباق من جديد.
جمعت شركات الاستحواذ ذات الأغراض الخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية نحو 11 مليار دولار حتى الآن من العام الجاري، مقارنة بأقل من ملياري دولار خلال الفترة نفسها من العام الماضي، بحسب بيانات جمعتها بلومبرغ. ستسعى هذه الشركات إلى العثور على شركة للاندماج معها، ما يمنحها مساراً مختصراً لدخول الأسواق العامة وسط انتعاش ما يزال ضعيفاً نسبياً في الطروح العامة التقليدية. ووفقاً لبيانات شركة "إس بي إيه سي أنالاتيكس" (SPAC Analytics)، شكلت شركات الاستحواذ ما يقرب من ثلثي حجم الطروح الأولية في الولايات المتحدة الأمريكية حتى الآن، ونحو 40% من العائدات.
مخاطر رغم بوادر تحسن
حتى الآن، لا يوجد عدد كبير من الشركات أو المستثمرين يسعون وراء الصفقات كما كان الحال في فترة السوق الصاعدة السابقة، كما أن المضاربات من قِبل المستثمرين الأفراد ليست بنفس القوة. علاوة على ذلك، بدأت بعض المشكلات القديمة -مثل نشر توقعات مالية مبالغ فيها ودفع رسوم مرتفعة للمصرفيين- تظهر بوادر تحسن.
رغم ذلك، ربما تظل حوافز شركات الاستحواذ غير متوازنة، إذ يمكن للمطلعين الداخليين تحقيق أرباح حتى في حال تكبد الآخرين خسائر، كما أن عدم إتمام صفقة يعرض رؤوس أموالهم لخطر الفقدان. والأسوأ أن هذه الأوعية الاستثمارية باتت تتجه بشكل متزايد نحو الاندماج مع شركات العملات المشفرة. فماذا يمكن أن يسوء؟
بعدما تجنبت البنوك الكبرى، مثل "جولدمان ساكس غروب"، التعامل مع شركات "الشيك على بياض" (وهو مسمى آخر لهذه النوعية من الشركات) بسبب المخاطر التنظيمية المحتملة، بدأت الآن تعود إلى السوق بحذر. في المقابل، عاد ممولون نشطون مثل مايكل كلاين وأليك غوريس إلى ضخ الأموال من جديد. كما يبدو أن المستثمر في مشاريع رأس المال الجريء تشامات باليهابيتيا، الذي شهدت صفقاته السابقة مع شركات الاستحواذ ذات الأغراض الخاصة خسائر جسيمة للمستثمرين الأفراد، يعتزم العودة هو الآخر، رغم أن عشرات الآلاف من المشاركين في استطلاع أجراه بنفسه على منصة "إكس" ناشدوه أن يبقى بعيداً عن المجال.
تمويل الصفقات
تواجه صناديق التحوط والمضاربون الآن صعوبة أكبر في الحصول على مخصصات ضمن الطروح العامة لشركات الاستحواذ ذات الأغراض الخاصة وفي الوقت ذاته، يضطر الرعاة إلى وضع رؤوس أموال أقل عرضة للمخاطر، ويتمكن بعضهم في بعض الحالات من جمع تمويل يُعرف باستثمار خاص في الأسهم المتداولة في البورصة (PIPE) لتعزيز السيولة المتاحة لدى شركة الاستحواذ ذات الأغراض الخاصة (نوع من التمويل كان قد اختفى تقريباً خلال فترة التراجع، ويُعد بمثابة تصويت خارجي على الثقة في قيمة الصفقة).
لماذا هذا الانتعاش الآن؟ يبدو أن "غرائز السوق" قد عادت. فبحسب مزود البيانات "إس بي إيه سي" (SPAC Research)، يتم تداول 10% من شركات الاستحواذ ذات الأغراض الخاصة التي لم تعلن بعد عن صفقات، و25% من تلك التي أعلنت عن صفقات، بأسعار تفوق بشكل مريح القيمة النقدية التي تحتفظ بها.
كما طرأت تطورات على البيئة السياسية والتنظيمية. بعد أن أجرت هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية تعديلات شاملة العام الماضي على قواعد شركات الاستحواذ لتعزيز حماية المستثمرين، بات الرعاة أكثر حذراً تجاه نشر توقعات مالية ممتدة لكن فيما يتعلق بمسؤولية مدير الاكتتاب، لم تصل مراجعة الهيئة إلى حد توجيه ضربة قاضية. ومنذ ذلك الحين، تم استبدال رئيس الهيئة والمنتقد لشركات الاستحواذ ذات الأغراض الخاصة إذ رحل غاري غينسلر وحل محله بول أتكينز، الذي يُتوقع أن يتبنى نهجاً أكثر تساهلاً.
بيئة تنظيمية داعمة
قال جوليان كليموشكو، الرئيس التنفيذي لشركة "إكسليريت فاينانشال تكنولوجيز" (Accelerate Financial Technologies) التي تدير صندوقاً يركز على شركات الاستحواذ ذات الأغراض الخاصة: "المؤشرات تدل على أن البيئة التنظيمية قد عادت للاهتمام بتشكيل رأس المال، وهذا ما يساعد على دعم السوق".
الولايات المتحدة تفرض قواعد جديدة على شركات الشيك على بياض..
بالطبع، لدى الرئيس الأمريكي دونالد ترمب ميول إيجابية تجاه شركات "الشيك على بياض". دخلت شركة "ترمب ميديا آند تكنولوجي غروب"، المالكة لمنصة "تروث سوشيال"، السوق العام الماضي من خلال الاندماج مع شركة "ديجيتال وورلد أكويزيشن كورب" (Digital World Acquisition Corp).
أما الآن، ينضم نجل الرئيس، دونالد ترمب الابن، إلى مجلس إدارة شركة "غراب إيه غن" (GrabAGun)، وهي منصة إلكترونية لبيع الأسلحة النارية، تعتزم دخول البورصة من خلال إحدى الأدوات الاستثمارية التابعة للممول المناهض لحركة "الوعي الثقافي" عميد مالك، وتحديداً عبر شركة "كولومبيير أكويزيشن كورب 2" (Colombier Acquisition Corp. II). لاقت الصفقة ترحيباً في السوق، إذ يجري تداول أسهم "كولومبيير" بعلاوة تقارب 35% فوق قيمة السيولة التي تحتفظ بها، ما يقيّم الشركة بنحو 450 مليون دولار. تراجعت إيرادات "غراب إيه غن" 3% العام الماضي لتسجل 93 مليون دولار.
تقييم الأسهم
وفق حساباتي المستندة إلى بيانات النشرة التعريفية، فإن نجل الرئيس سيحصل على 300 ألف سهم تبلغ قيمتها الحالية أكثر من 4 ملايين دولار، في حين سيحصل الراعي المالي لشركة "كولومبيير" على أسهم وحقوق شراء تُقدر بنحو 76 مليون دولار، كان قد دفع مقابلها ما يزيد قليلاً عن 5 ملايين دولار فقط. في الوقت نفسه، سيُسمح لمالكي "غراب إيه غن" بسحب 50 مليون دولار من أصل أكثر من 170 مليون دولار يحتفظ بها صندوق الاستحواذ. وصف أحد المتحدثين باسم الشركة المنصة بأنها شركة "أمازون الأسلحة"، مشيراً إلى أن الاهتمام الإعلامي بالصفقة جلب عملاء جدداً للمنصة.
على صعيد مديري اكتتابات شركات الاستحواذ، تصدرت شركة "كانتور فيتزجيرالد" (Cantor Fitzgerald) المشهد هذا العام، إذ تولت إدارة نحو 12 صفقة. بعد تعيين رئيس مجلس إدارتها ومديرها التنفيذي السابق هوارد لوتنيك وزيراً للتجارة الأمريكية، تولى نجله براندون، البالغ من العمر 27 عاماً، رئاسة الشركة، إضافة إلى قيادته لشركات الاستحواذ التي ترعاها "كانتور".
دور العملات المشفرة
في أبريل الماضي، أعلنت إحدى هذه الشركات الاستثمارية، وهي "كانتور إكويتي بارتنرز" (Cantor Equity Partners Inc.)، عن اندماج مع شركة "توينتي وان كابيتال" (Twenty One Capital) المتخصصة في الاستثمار في عملة بيتكوين. منذ ذلك الحين، تضاعفت قيمة الأسهم 3 مرات، لتبلغ قيمة الكيان المشترك نحو 11.5 مليار دولار، وهي قيمة تفوق بكثير حجم عملات بتكوين التي يعتزم امتلاكها. في سياق مشابه، أكدت شركة "برو كاب بي تي سي" (ProCAP BTC)، التي أسسها المؤثر في مجال العملات المشفرة أنتوني بومبليانو، هذا الأسبوع عزمها دخول السوق من خلال شركة استحواذ ذات أغراض خاصة مختلفة هي "كولومبوس سيركل كابيتال كورب 1"، والتي يرعاها أحد فروع شركة "كوهين آند كو" (Cohen & Co.).
مع إعلان شركات استحواذ ذات أغراض خاصة أخرى عن نيتها استهداف شركات تنشط في مجال العملات المشفرة أو تقنيات "بلوكتشين"، يبدو أن هذا القطاع يؤدي في دورة التعافي الحالية لشركات الاستحواذ ذات الغرض الخاص نفس الدور الذي قامت به شركات تصنيع السيارات الكهربائية الناشئة خلال موجة الازدهار السابقة؛ إذ يمثل محركاً للنمو، لكنه في الوقت نفسه رهان عالي المخاطر.
انتعاش هش
رغم ذلك، فإن توجه رعاة شركات الاستحواذ ذات الأغراض الخاصة نحو قطاعات عالية المضاربة يبدو منطقياً -مثل الحوسبة الكمية، والشاحنات ذاتية القيادة، وقطاع الطاقة النووية- إذ إن الصفقات تحتاج لإثارة حماس المستثمرين كي لا يطلب صناع السوق استرداد أموالهم مع فوائدها، وهي عملية تُعرف باسم رد القيمة. وفقاً لبيانات "إس بي إيه سي ريسيرش"، فقد تم استرداد القيمة لنحو 95% من الأموال في الصفقات التي أُنجزت حتى الآن من العام الجاري.
في الوقت نفسه، ومن بين نحو 20 شركة طرحت أسهمها للاكتتاب العام خلال السنة الجارية من خلال شركات الاستحواذ ذات الأغراض الخاصة، أُقدر أن القيم الوسطى لأدائها تراجعت بنحو 75% مقارنة بسعر الطرح البالغ 10 دولارات، ما يشير إلى أن المستثمرين لا يثقون بأن هذه الدورة الجديدة ستُنتج قيمة أكبر من سابقتها. وحتى تتحسن هذه السجلات السيئة، من المرجح أن يظل الانتعاش الوليد لشركات الاستحواذ ذات الأغراض الخاصة هشاً.
خاص بـ "بلومبرغ"