علم الاقتصاد وربطه بالواقع وحوار السياسات
يجب على الاقتصاديين ألا يسمحوا للخوف من المساءلة - أو التحيز السياسي – بأن يعترض طريقهم. فعلى سبيل المثال، خيمت الأيديولوجيات على الحوار بشأن التضخم، ما يتعذر معه التوصل إلى استنتاجات موضوعية. وهكذا فإن الشفافية والاستعداد لمراجعة الأفكار والآراء وصدق تفسير الشواهد من أهم العلامات على حيوية منظومة الاقتصاد. التبسيط يعني سهولة إيصال الأفكار وليس استخفافا بالعقول".
الإنصات إلى المخاوف
وعلى الاقتصاديين أيضا التعامل بجدية مع آراء الجمهور. ولنا عبرة في ردود الفعل العنيفة حيال سرعة اندماج الصين في التجارة العالمية. فالنظرية الاقتصادية تشير إلى أن العمال المُسرّحين سيجدون فرصا جديدة. ولكن كثيرين لم يتمكنوا من الانتقال أو ربما لم يرغبوا في ذلك بسبب تكلفة السكن، أو الروابط الاجتماعية، أو غير ذلك من المعوقات. وقد أدت هذه الاحتكاكات إلى استمرار الاضطرابات لفترة أطول - وردود فعل أكثر عنفا - مما كان متوقعا.
وبالمثل، تشير ردود الفعل العامة إزاء الطفرة التضخمية في أوائل عشرينيات القرن الحادي والعشرين إلى أن تكاليف هذه النوبة قد تجاوزت توقعات الفكر الاقتصادي التقليدي. وقد أثبتت البحوث أن التضخم يفرض تكاليف إدراكية كبيرة نظرا للاهتمام الذي يتعين إيلاؤه لتقييم مدى عدالة الأسعار والأجور والحاجة إلى تعديل الخطط المالية. وقد تكون عبارات مثل "غالبا ما تواكب الأجور معدلات التضخم" صحيحة في المتوسط، لكنها تحجب تفاوتات حادة. ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، ارتفعت أجور عديد من العمال الأقل دخلا بوتيرة أسرع في أوائل عشرينات القرن الحادي والعشرين، لكن المكاسب لم تشمل الجميع.
وإقرار هذه المخاوف لا يعني التخلي عن المبادئ الاقتصادية، بل يعني التعمق في فهم تعقيدات تجربة التغير الاقتصادي التي يخوضها الفرد. وتجاهل هذه المخاوف يُضعف مصداقية الاقتصاديين ويحد من فرصهم في حشد التأييد اللازم لفكرهم البناء في مجال السياسات.
نزاهة البيانات
من السمات المميزة للبحوث الاقتصادية الاستخدام الدقيق للبيانات، وينبغي للاقتصاديين الالتزام بمعايير النزاهة ذاتها عند المشاركة في المناقشات العامة. فمع صعود وسائل التواصل الاجتماعي، وزيادة توافر البيانات وأدوات العرض المرئي، بات من الأسهل على الجميع -بما فيهم الاقتصاديون- إساءة استخدام الإحصاءات لدعم حجج واهية. ولكن الانقياد وراء هذه الأساليب طمعا في الفوز في المناقشات في الوقت الحالي يهدد بتقويض الثقة في التحليل الاقتصادي على المدى الطويل.
وقد يؤدي الاستخدام العشوائي للبيانات إلى تقويض الثقة في الإحصاءات الرسمية أيضا. فالإشارة إلى وجود تعارض بين سلسلة بيانات حكومية ومصدر آخر للبيانات دون إقرار الاختلافات في المنهجية أو نطاق التغطية أو التعريفات قد تُعطي انطباعا خاطئا بوجود خلل أو تلاعب في المؤشرات الرسمية. وفي عصر تواجه فيه الهيئات الإحصائية ضغوطا سياسية ومالية متزايدة، فإن هذا النوع من المقارنات غير الدقيقة يُهدد استمرار توافر البيانات الحكومية عالية الجودة وغير المتحيزة.
التعاون الفعال
يجب أن يعترف الاقتصاديون بأن السياسات المثالية من وجهة نظرهم قد لا تكون كذلك - في سياق الاعتبارات الأوسع نطاقا التي تنطوي عليها العملية السياسية. وفي تلك الحالات، ينبغي أن يقدم الاقتصاديون بدائل تراعي تلك الاعتبارات. والمرونة هنا ليست تراجعا عن المبدأ - إنما هي إدراك لواقع الإدارة.
والتواصل الواضح شرط آخر يتعين على الاقتصاديين الالتزام به. فاللغة الاصطلاحية المتخصصة قد تضفي هالة من الخبرة أو تُقصي غير المتخصصين من الحوار، لكنها ليست إستراتيجية مستدامة للتأثير. لذلك، ينبغي للاقتصاديين استخدام لغة بسيطة وتجنب الرسوم البيانية مفرطة التعقيد. والتبسيط يعني سهولة إيصال الأفكار وليس استخفافا بالعقول.
وأخيرا، يجب على الاقتصاديين مخاطبة الجمهور الأكبر، وليس صناع السياسات فحسب. فالسياسيون مساءلون أمام ناخبيهم. وعلى مهنة الاقتصاد أن تكتسب ثقة الجمهور إذا أُريد لها أن يؤخذ بمشورتها في تشكيل السياسات، وهذا يعني استخدام قنوات وأدوات في متناول جميع الشرائح.
ولن يحظى الاقتصاديون بشعبية كبيرة أبدا، ولا ينبغي لهم السعي لاكتسابها. فدورهم هو تقديم التحليلات الدقيقة لدعم القرارات، وليس مخاطبة الجمهور بما يود سماعه. ولكن للاحتفاظ بتأثيرهم، يجب عليهم الاعتراف بالأخطاء، والإنصات بشكل أفضل، وحماية البيانات، والتواصل بفاعلية. أما صناع السياسات، فهم بحاجة إلى الخبرة الاقتصادية، حتى وإن رفضوا سماعها. والتحدي هنا لا يكمن في إسباغ الشعبية على علم الاقتصاد، بل في ربطه بالواقع، وسهولة فهمه، والاعتراف بأهميته في الحوار حول السياسات.