التقنية والتنمية والحياة الطيبة

عاش الإنسان آلاف السنين معتمدا، في حياته، على الزراعة والثروة الحيوانية، إضافة إلى أدوات تقنية بسيطة محدودة التطور. لكن حدثا هاما وجهه وجهة أخرى. كان ذلك في القرن الثامن عشر للميلاد، وكان الحدث تقنيا، إنه الآلة البخارية التي ظهرت لتدير المصانع وتحرك القطارات، وتفعل نشاطات الإنسان، فاتحة أبوابا متجددة، غير مسبوقة، لتطور معطيات الحياة. بذلك انطلقت الثورة الصناعية الأولى، لتفرز بعد ذلك سلسلة من الثورات الصناعية التي تلتها، وصولا حاليا إلى ثورة صناعية خامسة تقرع أبواب العالم، حاملة الذكاء الاصطناعي وسيلة رئيسة بين أيديها، كما كانت الآلة البخارية من قبل.

منذ الثورة الصناعية الأولى، بدأ تركيز الإنسان على المعرفة العلمية، والسعي إلى تجددها وإضافة إليها، والعمل على تطبيقها في بناء منتجات تقنية جديدة ومفيدة، وتقديم خدمات، متميزة أيضا، في شتى مجالات الحياة. وهكذا تكونت عجلة التقدم الذي نشهده اليوم، وفيها الإنسان باحثا يهتم بتجدد المعرفة، وكذلك مبتكرا يسعى إلى تحويلها إلى تقنية تقدم قيمة مفيدة، ثم رائد أعمال يركز على تفعيل اليد العاملة في إنتاجها وتعميمها في السوق والاستفادة من عوائدها، وربما مسهما أيضا في الإنفاق على دعم تجدد المعرفة، ودفع عجلة التقدم إلى الأمام نحو المزيد. والغاية من كل ذلك حياة طيبة للإنسان نحو مزيد من التنعم بمعطيات متجددة.

فإذا كان الإنسان هو المصدر المولد للمعرفة، اكتشافا وإبداعا وابتكارا، وصناعة وتجارة، فهو أيضا مقصدها، يستفيد من معطياتها في تعزيز رفاهه. فالمعرفة وسيلة تفرز التقنية، والتقنية وسيلة بدورها تعطي التنمية الاقتصادية، والتنمية الاقتصادية بشقيها توليد الثروة وتشغيل اليد العاملة، تقود إلى حياة طيبة طموحة. ولا شك أن تحقيق حياة طيبة للجميع يعطي بيئة آمنة تضمن استدامة عمل عجلة النشاطات التي تقود إليها، وتسعى إلى تطويرها نحو الأفضل.

ولكن ما هو المقصود بالحياة الطيبة، التي تعطي أيضا بيئة استمرار التجدد المعرفي، والعطاء التقني، واستدامة التنمية؟ هناك بالطبع وجهات نظر متعددة بشأن هذه الحياة، لكننا سنسعى في التالي إلى التعرف على مفهومها كما تراه منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التي تلقب بنادي الدول الغنية، والتي تضم في عضويتها 38 دولة من دول العالم التي يبلغ عددها 193 دولة، هي الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة.

تشمل نظرة المنظمة إلى الحياة الطيبة عددا من المتطلبات. هناك متطلب الأمان، لأن البيئة الآمنة هي الممكن الأساس لمختلف نشاطات الحياة. وهناك متطلب العناية الصحية، وهو الممكن لتطور قدرات الإنسان، والمفعل لعمله. ثم هناك متطلب التعليم وما يرتبط به من حرص على الجودة والقدرة على المنافسة، ليس في الإطار المحلي فقط، بل على المستوى الدولي أيضا. ويبرز بعد ذلك متطلب العمل، في مختلف النشاطات، وفي شتى المجالات، ويمثل العمل بالطبع جوهر العطاء المطلوب، والعوائد المرجوة، لاستمرار الحياة وتطورها.

ويبرز إلى جانب متطلب العمل متطلب الدخل الذي يجب أن يتناسب مع متطلبات الحياة، وهو بالطبع يعتمد أيضا على إنتاجية العمل وجودته، وما يقدم من قيمة. ويضاف إلى ما سبق متطلبات السكن، والمحافظة على البيئة، والمشاركة المجتمعية، والمسؤولية، إلى جانب العدالة، والشعور العام بالرضى والطموح إلى المزيد.

إننا جميعا، كل ضمن دائرة عمله ومدى تأثيره، مسؤولون عن المحافظة على الحياة الطيبة، وعن تطويرها المستمر نحو الأفضل. مسؤولون عن مواجهة تحديات التقنية والتنمية، مسؤولون عن متابعة المعرفة، والاكتشاف والإبداع والابتكار وريادة الأعمال، ومسؤولون عن التعاون والمشاركة في كل ذلك.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي