صناعة الكذب والاحتيال تتمدد
لا تقتصر ممارسة الأساليب الملتوية على فترة زمنية بعينها. فكل الفترات شهدت صعود وهبوط وتيرة الاحتيال والفساد والأكاذيب، كما شهدت ما يمكن وصفه بمحاولات لـ"تأصيل الكذب" عموما. ورغم أن بعض هؤلاء الذين يمارسون هذه السلوكيات وقعوا في أيدي العدالة، أو الجهات الرقابية التشريعية، إلا أن النسبة الكبرى منهم، لا تزال تمارس هذه السلوكيات، وتقوم بتطويرها وفق "الاحتياجات" اللازمة لتحقيق أهدافها. ومع نهاية العام الحالي، تبين أن عمليات الاحتيال شهدت ارتفاعا لافتا، وشملت كل شيء تقريبا، من السوق إلى الاقتصاد إلى السياسة إلى المجتمع. بل اتبعت مؤسسات معروفة في تلك الدولة أو أخرى عملية الخداع أساسا لعملياتها التجارية المعلنة. وكذلك فعل عدد من الشخصيات التي لا تغيب كثيرا عن أضواء الإعلام، والمناسبات الاستعراضية المختلفة، بما في ذلك تلك الخاصة حتى بالنشاطات الخيرية.
في 2023، يعتقد أنه كان عام الاحتيال غير المتقن، لماذا؟ لأن عدد أولئك الذين وقعوا في أيدي القضاء ومؤسسات الضغط السياسية والاجتماعية زاد بصورة ملحوظة. واللافت، أن نسبة المؤسسات التي مارست الغش على المستثمرين فيها وعلى المتعاملين معها، أيضا زادت، بما في ذلك تقديم بيانات غير صحيحة بالكامل، واستخدام أساليب تضليلية تمنع الوصول إلى حقيقة ما يجري فيها. وكما أن الأمر من ناحية الأفراد، كذلك من جهة المؤسسات، التي يمكن أن يقع بعضها، ويستمر بعضها الآخر في عمليات الخداع والاحتيال والكذب لفترة أطول، أو ربما لفترة لا حدود لها. فالتعاملات لهذه المؤسسات كانت مليئة بالمعلومات المخادعة في أحسن الأحوال، لأن الجانب السيئ الآخر هو المعلومات المضللة تماما.
والمشكلة الكبرى، أن "مرض" الخداع مستشر أيضا حتى في أوساط الجهات السياسية الصانعة للقرارات. وقد ظهر ذلك بوضوح على الساحة الاقتصادية، حيث أربكها بعدما تم الكشف عن الحقائق. حتى بعض المشرعين كانوا يمارسون الخداع "ولو المؤقت" من أجل تمرير قانون هنا وآخر هناك، لدعم مسار الحراك الاقتصادي، إلا أن ذلك لا يوفر ضمانات مستدامة لها، الأمر الذي سرعان ما يعود بالوضع إلى ما كان عليه، لكن في هذه الحالة بفعل التصحيح المستحق. غير أن هذا لا يقلل مساحة انتشار ما يمكن وصفه بـ"الكذب الاحترافي"، أي إنك تؤسس لهذا الكذب على قواعد مهنية عالية بالفعل، تمكنك من تحقيق غاياتك بصرف النظر عن النتائج. وحدث حقا، أن قرارات محورية صدرت على أساس الخداع، ما يجعل الأمر ليس سيئا فحسب، بل أكثر خطورة في وقت لاحق.
ويحدث هذا حتى في الدول التي تتمتع بوجود مؤسسات رقابية قوية مختلفة، لكن إذا ما وقع الغشاشون، يكون عقابهم عادة قويا، إلى درجة أن فرضت المحكمة أخيرا غرامة بقيمة 148 مليون دولار على رودي جولياني حاكم نيويورك السابق، الذي عمل أيضا محاميا شخصيا للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب. وهذه الحالة ليست نادرة "باستثناء قيمة المبلغ التعويضي". إلا أن أسوأ أنواع الغش يبقى ذاك المرتبط بصنع قرارات على أسس مخادعة، خصوصا من جانب المؤسسات التشريعية والسياسية. لا حدود لأعمال وسلوكيات الاحتيال والغش والكذب والتضليل، وستنقل بأشكال قديمة ومتجددة عبر الزمن. فالعام 2023 الذي شهد ارتفاعا مخيفا لوتيرة هذه السلوكيات، قد يكون أفضل مما هو مقبل من الأعوام.
كل شيء مباح في عام الفساد. بما في ذلك الاستخدام الكبير لوسائل التواصل الاجتماعي، ليس لتقديم الخدمات أو الفائدة المطلوبة، بل لنشر ما أمكن من شائعات، وأخبار كاذبة لا علاقة لها بالواقع على الإطلاق. وأسهم ذلك في تمكين المحتالين والغشاشين والفاسدين أفرادا ومؤسسات.